الفرق بين القرآن وأهم كتب الديانات الحالية

بين الوحي الإلهي واللاوحي في الإسلام والمسيحية (2/1)

الوحي واللاوحي

الوحي المعتبر في الإسلام هو ما بلغه النبي محمد إلينا من آيات الذكر الحكيم والأحاديث القدسية والأحاديث النبوية

نؤمن ويؤمن الكثيرون بأنه كما أن هناك عالم مادي نعيش فيه ونرى بعضنا بعضا فيه بأعيننا من خلال حاسة البصر التي وهبنا الله إياها، هناك عالم آخر بل وربما عوالم أخرى لا تسري عليها القواعد والضوابط المادية التي تسري على عالمنا، وعلى الرغم من ذلك نستطيع بطريقة أو بأخرى التواصل مع هذه العوالم الغيبية ورؤية أشياء وأمور معينة في هذه العوالم.

ولكن والحال كذلك ما مدى صدق ما نراه؟ هل هو حقيقة أم خيال؟ هل هو واقع أم وهم؟ وهل ذلك من عند الله أو من عند الشيطان أو من عند أنفسنا أم من عند من؟ وهل هناك سبيل لمعرفة ذلك؟

لحسن حظنا نحن المسلمين، لدينا من القواعد والضوابط ما نميز به بين الوحي الإلهي واللاوحي بأشكاله المختلفة سواء كان حقيقة أم خيالا وسواء كان خيرا أم شرا ونستطيع الوقوف على حجية ذلك من حيث العمل به في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية.

وإن هذا من أهم ما يتميز به الإسلام ونصوصه الدينية عن غيره من الرسالات السماوية السابقة التي اختلط فيها الوحي الإلهي باللاوحي وما هو له حجية شرعية وعقدية بما ليس كذلك. لنلق نظرة الآن على الوحي واللاوحي من المنظور الإسلامي من حيث الحجية في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية.

الوحي الإلهي واللاوحي في الإسلام

يؤمن المسلمون بإمكانية تواصل الإنسان مع العالم الغيبي ورؤيته لأمور ليست من قبيل الواقع المشاهد الذي نراه بأعيننا في هذا العالم. فعلى الرغم من إيماننا بأنه ليس كل ما يراه الإنسان والحال كذلك واقعا أو صدقا، وإنما هناك بعض الأحوال التي قد يكون ما يراه الإنسان فيها واقعا وصدقا ولكن هناك فرق بين الوحي الإلهي الذي يعمل به في النصوص الدينية والأحكام والشرعية والمسائل العقدية وما هو ليس بوحي. وتتعدد أشكال اللاوحي حتى وإن كان واقعا وصدقا ما بين رؤيا منامية وإلهام وكشف أو تجلي رباني.

الوحي الإلهي وكيفيته في الإسلام

يخبرنا القرآن الكريم أن الله كان يوحي إلى نبيه محمد كما كان يوحي إلى غيره من الأنبياء والمرسلين. فعن ذلك نقرأ:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (النساء 163:4)

وعن كون القرآن الكريم وحيا من الله عز وجل، نقرأ في القرآن الكريم:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (النساء 82:4)

ونقرأ:

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (الأنعام 19:6)

كما نقرأ:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس 15:10)

وعن كيفية الوحي للأنبياء والمرسلين، نقرأ في القرآن الكريم:

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى 51:42)

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. (رواه البخاري)

وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض: فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع (رواه البخاري)

ومن ثم، يتبين لنا أن الوحي كان يتنزل على النبي محمد وعلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين في صورة وحي مباشر من الله عز وجل أو وحي من خلال أحد الملائكة لاسيما جبريل عليه السلام أمين الوحي أو من خلال رؤيا منامية، فعن عبد الله بن عمير أنه قال: رؤيا الأنبياء وحي. (رواه البخاري)

وأما حجية هذا الوحي كجزء من النصوص الدينية، فبالنسبة للقرآن الكريم والأحاديث القدسية، فلا يعتد إلا بالوحي المنزل من خلال جبريل عليه السلام.

فعن نزول جبريل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، نقرأ في القرآن الكريم:

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (البقرة 97:2)

ولكن، كانت آيات القرآن توحى كلمة بكلمة وحرفا بحرف من خلال جبريل، أما الأحاديث القدسية، فكان جبريل يتنزل بمعناها فقط وكان لفظها من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الأحاديث النبوية العادية، فكان النبي يستلهمها من الوحي المباشر أو من خلال جبريل أو الرؤيا المنامية. وعند عدم نزول الوحي، كان النبي يجتهد في بعض الأمور ثم ينزل الوحي بالتصديق أو بالنسخ.

وعن ذلك، نقرأ في القرآن الكريم:

وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (النجم 3:53-5)

أما بالنسبة لحجية الوحي من حيث العمل به في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية، فقد كان لجميع أشكال الوحي المنزل على النبي بما في ذلك الوحي المباشر والوحي من خلال جبريل أو من خلال رؤيا منامية الحجية في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية.

وعن ذلك، نقرأ في القرآن الكريم:

وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر 59:7)

ولكن يقتصر الوحي المعتبر في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية في الإسلام على الوحي المنزل على النبي محمد فقط وما أقره من إلهامات أصحابه ورؤاهم حال حياته.

فعن محمد بن عبد الله بن زيد قال: حدثني أبي لما أمر – صلى الله عليه وسلم – بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ فقلت ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع، قال: ثم استأخر عني غير بعيد فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبرته بما رأيت، فقال: “إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتا ” فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “فلله الحمد” (رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة)

وعن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن قلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه قالت يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات الآية. (رواه البخاري)

أنماط الوحي

للوحي في الإسلام أنماط مختلفة وليس نمطا واحدا. فلا يعني أن النبي لم ينطق عن الهوى وأن ما كان ما يصدر عنه وحي يوحى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي حتى ينطق بكل كلمة أو يعمل كل عمل. فأحيانا كان الوحي ينزل مسبقا وأحيانا ينزل متزامنا وأحيانا ينزل لاحقا بمعنى أنه كان ينزل قبل الحاجة إليه أو حال الحاجة إليه أو بعد الحاجة إليه.

فأما نزول الوحي مسبقا وقبل الحاجة إليه، فمنه قوله تعالى:

الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (الروم 1:30-3)

فقد تنبأت هذه الآية بانتصار الروم على الفرس وأخبر النبي محمد بذلك قبل وقوع هذا الانتصار بالفعل.

ومنه أيضا قوله تعالى:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح 48:27)

فقد تنبأت هذه الآية بفتح مكة وأخبر النبي بذلك قبل عام الفتح، وقد نزلت في صلح الحديبية بعد أن اتفق النبي محمد مع كفار قريش على الرجوع إلى المدينة وعدم أداء العمرة في ذلك العام. فنزلت هذه الآية تسرية عن المسلمين وتبشيرا لهم بفتح مكة.

وأما نزول الوحي متزامنا، فعليه شواهد كثيرة ومنها قوله تعالى:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر 39:53)

فعن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا-  صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة. فنزلت هذه الآية (رواه البخاري)

وأما نزول الوحي لاحقا، فأحيانا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في المسائل التي لم ينزل بها وحي في ضوء ما نزل به وحي ثم ينزل الوحي بعد ذلك إما إقرارا لاجتهاد النبي أو نسخا له.

فأما الوحي الذي نزل إقرارا لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فمنه قوله تعالى:

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (الفتح 25:48-26)

فقد نزلت هذه الآيات الكريمة إقرارا لاجتهاد النبي بعد أن آثر الدخول في صلح الحديبية مع كفار قريش بعد أن نوى العمرة وساق الهدي بدلا من الدخول في حرب مع أهل مكة وبينت الآيات السابقة أن العلة من إقرار الصلح اجتناب التعرض لمن أسلم سرا من أهل مكة بالقتل أو الإصابة. وأوضحت الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم قبِل الصلح بسكينة من الله عز وجل وليس بهوى من نفسه.

وأما الوحي الذي نزل نسخا لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فمنه قوله تعالى:

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (التوبة 42:9-43)

فهذه الآية نسخت اجتهاد النبي وعابت عليه قبول أعذار المتخلفين عن الجهاد بدون عذر حقيقي وبينت أن ذلك خلاف الأولى وهو ألا يقبل النبي أعذارهم والعلة من ذلك التمييز بين المنافقين والصادقين من المؤمنين.

والشاهد أن اتباع النبي للوحي في جميع نواحي الرسالة لا يعني انتظاره نزول الوحي من السماء قبل نطق أية كلمة أو عمل أي عمل وإنما اتباع ما نزل من الوحي بالفعل وكذلك الانصياع لوحي السماء إقرارا أو نسخا بعد الاجتهاد في الأمور التي لم ينزل بها الوحي.

اللاوحي في الإسلام

قد يتواصل غير الأنبياء مع العالم أو العوالم الغيبية كما أسلفنا بطريقة أو بأخرى. وتتعدد أشكال هذا التواصل ما بين رؤيا منامية وإلهام وكشف أو تجلي رباني. ولكن ذلك من حيث حجيته في النصوص الدينية لا يسمى وحيا يندرج بين دفتي المصحف كآيات من الذكر الحكيم، كما أنه لا يندرج ضمن الأحاديث النبوية الشريفة.

وأما من حيث حجيته في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية، فهناك فرق في ذلك بين الصحابة وغيرهم من عموم المسلمين. فرؤى الصحابة وإلهامهم وتجلياتهم الربانية إذا أقرها النبي صارت كالوحي كما ذكرنا من حيث العمل بها في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية. أما إذا لم يقرها النبي أو حدثت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فهي من قبيل قول الصحابي وتسمى آثارا وقد يعمل بها في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية ما لم تتعارض مع آية قرآنية قطعية الدلالة أو حديث نبوي أو قدسي قطعي الثبوت والدلالة.

فعلى سبيل المثال، قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة قال له ماذا لقيت قال أبو لهب لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة (رواه البخاري)

ويروى أن عمر رضي الله عنه، بعث سرية فاستعمل عليهم رجلاً يدعى سارية ، قال: فبينا عمر يخطب الناس يومًا قال: فجعل يصيح وهو على المنبر: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، قال فقدم رسول الجيش، فسأله فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمنا، فإذا بصائح يصيح: يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. رواه أحمد في (فضائل الصحابة)، وأبو نعيم في (دلائل النبوة) والضياء في (المنتقى من مسموعاته) وابن عساكر في (تاريخه) والبيهقي في (دلائل النبوة) وابن حجر في (الإصابة) وحسن إسناده، ومن قبله ابن كـثير في (تاريخه) قال: إسناد جيد حسن، والهيثمي في (الصواعق المحرقـة) حسن إسناده أيضًا.

فالرؤيا والإلهام سالفا الذكر على سبيل المثال من شواهد أقوال الصحابة التي قد يكون لها حجية في الأحكام الشرعية أو المسائل العقدية ما لم تتعارض مع آيات قرآنية قطعية الدلالة أو أحاديث نبوية أو قدسية قطعية الثبوت والدلالة.

أما رؤى عموم المسلمين وإلهامهم وتجلياتهم الربانية، فلا حجية لها في النصوص الدينية ولا في الأحكام الشرعية ولا في المسائل العقدية، ولا يعتد بها إلا في حق من رآها من المسلمين. فإذا رأى المسلم رؤيا أو ألهمه الله شيئا أو تجلى الله عليه بشيء، صار ذلك قاصرا عليه هو فقط ولا يلزم به غيره، فذلك من قبيل البشرى أو الإنذار أو الموعظة أو الكرامة أو الفتح الرباني.

فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره (رواه البخاري)

والخلاصة أن الوحي المعتبر في الإسلام من حيث حجيته في النصوص الدينية والأحكام الشرعية والمسائل العقدية هو ما بلغه النبي محمد إلينا من آيات الذكر الحكيم والأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، أما خلاف ذلك من إلهامات المسلمين أو رؤاهم أو تجلياتهم بما في ذلك الصحابة إذا لم يقر النبي ذلك، فليس من الوحي، بل هو من قبيل اللاوحي، ولا يعني ذلك بالضرورة عدم صدق هذه الإلهامات أو الرؤى أو التجليات، وإنما يعني عدم حجيتها كنصوص مقدسة تدرج في القرآن الكريم أو أحاديث نبوية وكذلك عدم حجيتها في الأحكام الشرعية والمسائل العقدية، بخلاف أقوال الصحابة فقد يعمل بها في هذه الأحكام والمسائل ما لم تتعارض مع آيات قطعية الدلالة من القرآن الكريم أو أحاديث قطعية الثبوت والدلالة.

_________

المراجع:

1- القرآن الكريم

2- صحيح البخاري

3- دلائل النبوة لأبي نعيم

4- دلائل النبوة للبيهقي

_________

اقرأ أيضا:

بين الوحي الإلهي واللاوحي في الإسلام والمسيحية (2/2)

الفرق بين القرآن وأهم كتب الديانات الحالية

الفرق بين الكتاب المقدس والقرآن الكريم

ما هو القرآن الكريم وما الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل؟

مواضيع ذات صلة