موت الإله الفادي
وأما فكرة موت الإله فهي عقيدة وثنية يونانية، حيث كان اليونانيون يقولون بموت بعض الآلهة، لكن اليونان كانوا يحتفظون بآلهة أخرى تسيّر دفة الكون، بينما النصارى حين قالوا بموت الإله لم يحتفظوا بهذا البديل، ولم يخبرنا أولئك الذين يعتقدون بأن الله هو المسيح من الذي كان يسير الكون ويرعى شئونه خلال الأيام التي مات فيها الإله، أي الأيام الثلاثة التي قضاها في القبر.
والفداء عن طريق أحد الآلهة أو ابن الله أيضاً موجودة في الوثنيات القديمة، وقد ذكر السير آرثر فندلاي في كتابه “صخرة الحق” أسماء ستة عشر شخصاً اعتبرتهم الأمم آلهة سعوا في خلاص هذه الأمم منهم: أوزوريس في مصر 1700 ق.م، وبعل في بابل 1200ق.م، وأنيس في فرجيا 1170 ق.م، وناموس في سوريا 1160 ق.م، وديوس فيوس في اليونان 1100 ق.م، وكرشنا في الهند 1000 ق.م، وأندرا في التبت 725 ق.م، وبوذا في الصين560 ق.م، وبرومثيوس في اليونان 547 ق.م، ومترا (متراس) في فارس 400 ق.م. (1)
ولدى البحث والدراسة في معتقدات هذه الأمم الوثنية نجد تشابهاً كبيراً مع ما يقوله النصارى في المسيح المخلص. فأما بوذا المخلص عند الهنود والصينيين فلعله أكثر الصور تطابقاً مع مخلص النصارى، ولعل مرد هذا التشابه إلى تأخره التاريخي فكان تطوير النصارى لذلك المعتقد محدوداً.
والبوذيون -كما نقل المؤرخون- يسمون بوذا المسيح المولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون: إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم حتى لا يعاقبوا عليها. وجاء في أحد الترنيمات البوذية عن بوذا “عانيت الاضطهاد والامتهان والسجن والموت والقتل بصبر وحب عظيم لجلب السعادة للناس، وسامحت المسيئين إليك”.
ويذكر مكس مولر في كتابه “تاريخ الآداب السنسكريتية” أن “البوذيون يزعمون أن بوذا قال: دعوا الآثام التي ارتكبت في هذا العالم تقع عليّ، كي يخلص العالم”.
ويرى البوذيون أن الإنسان شرير بطبعه، ولا حيلة في إصلاحه إلا بمخلص ومنقذ إلهي. وكذلك فإن المصريين يعتبرون أوزوريس إلهاً، ويقول المؤرخ بونويك في كتابه “عقيدة المصريين”: “يعد المصريون أوزوريس أحد مخلصي الناس، وأنه بسبب جده لعمل الصلاح يلاقي اضطهاداً، وبمقاومته للخطايا يقهر ويقتل “ويوافقه العلامة دوان في كتابه “خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى” (2).
كما تحدث المؤرخون عن قول المصريين بقيامة مخلصهم بعد الموت، وأنه سيكون ديان الأموات يوم القيامة، فإنهم يذكرون في أساطيرهم أن أوزوريس حكم بالعدل، فاحتال عليه أخوه وقتله، ووزع أجزاء جسمه على محافظات مصر، فذهبت أرملته أيزيس فجمعت أوصاله من هنا وهناك، وهي تملأ الدنيا نحيباً وبكاءً، فانبعث نور إلى السماء، والتحمت أوصال الجسد الميت، وقام إلى السماء يمسك بميزان العدل والرحمة (3).
وكذلك اعتقد الهنود في معبودهم كرشنا أنه مخلص وفادي. يقول القس جورج كوكس: “يصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً، لأنه قدم شخصه ذبيحة”، ويعتقدون أن عمله لا يقدر عليه أحد.
ويقول المؤرخ دوان في كتابه “خرافات التوراة والإنجيل”: “يعتقد الهنود بأن كرشنا المولود البكر الذي هو نفس الإله فشنو، والذي لا ابتداء ولا انتهاء له –وفق رأيهم- تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه”، ومثله يقوله العلامة هوك.
ويصف الهنود أشكالاً متعددة لموت كرشنا أهمها أنه مات معلقاً بشجرة سُمِّر بها بحربة. وتصوره كتبهم مصلوباً، وعلى رأسه إكليل من الذهب، ويقول دوان: “إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود والوثنيين. وكذلك اعتقد أهل النيبال بمعبودهم أندرا، ويصورونه وقد سفك دمه بالصلب، وثقب بالمسامير، كي يخلص البشر من ذنوبهم” كما وصف ذلك المؤرخ هيجين في كتابه: “الانكلو سكسنس” (4).
وحتى لا نطيل نكتفي بهذه الصور التي اعتقد أصحابها بسفك دم الآلهة قرباناً وفداء عن الخطايا ومثلها في الوثنيات القديمة كثير. الدم المسفوح سبيل الكفارة وليست مسألة المخلص فقط هي التي نقلها بولس عن الوثنيات، فقد تحدث أيضاً عن دم المسيح المسفوح فقال: “يسوع الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه” (رومية 3/25)، ويقول: “ونحن الآن متبررون بدمه” (رومية 5/9)، ويواصل: “أليست هي شركة دم المسيح” (كورنثوس (1) 10/16). ويقول: “أنعم بها علينا في المحبوب الذي فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا” (أفسس 1/7). وفي موضع آخر يتحدث عن ذبح المسيح الفادي “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا” (كورنثوس (1) 5/7).
ومثل هذه النصوص تكثر في رسائل بولس، وهي فكرة جِدُ غريبة، فإن المسيح لم يذبح، فالأناجيل تتحدث عن موت المسيح صلباً، لا ذبحاً، والموت صلباً لا يريق الدماء، ولم يرد في الأناجيل أن المسيح نزلت منه الدماء سوى ما قاله يوحنا، وجعله بعد وفاة المسيح حيث قال: “وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه، لأنهم رأوه قد مات، لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء” ( يوحنا 19/23 – 24). وهو ليس ذبحاً بكل حال. يقول المحقق ولز: “إنه لزام علينا أن نتذكر أن الموت صلباً لا يكاد يهرق من الدم أكثر مما يريقه الشنق، فتصوير يسوع في صورة المراق دمه من أجل البشرية إنما هو في الحقيقة من أشد العبارات بعداً عن الدقة ” (5).
والنظرة إلى الله بأنه لا يرضى إلا بأن يسيل دم الكفارة أو الضحية نظرة قديمة موجودة عند اليهود وعند الوثنيين قبلهم، ففي التوراة تجد ذلك واضحاً في مثل قولها: “بنى نوح مذبحاً لله.. وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان “(التكوين 8/20 – 21). وكذا صنع داود “وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة، ودعا الرب، فأجابه بنار من السماء على مذبحة المحرقة” (الأيام (1) 21/26) وهكذا فإن التصور اليهودي للإله مشبع برائحة الدم، وهو تصور الإله ساخطاً لا يرضيه إلا الدم والمحرقات، وحينها فقط يتنسم رائحة الرضا، ويرضى عن عباده، يقول آرثر ويجال: “نحن لا نقدر أطول من ذلك قبول المبدأ اللاهوتي المفزع الذي من أجل بعض البواعث الغامضة وجوب تضحية استرضائية، إن هذا انتهاك إما لتصوراتنا عن الله بأنه الكلي القدرة، وإلا ما نتصوره عنه ككلي المحبة” (6).
ويرى كامل سعفان أيضاً “أن ادعاء إهراق دم المسيح مأخوذ من الديانة المثراسية حيث كانوا يذبحون العجل، ويأخذون دمه، فيتلطخ به الآثم، ليولد من جديد، بعد أن سال عليه دم العجل الفدية (7).
نزول الآلهة إلى الجحيم لتخليص الموتى
وتشابهت العقائد النصرانية مع الوثنيات القديمة مرة أخرى عندما زعم النصارى أن المسيح نزل إلى الجحيم لإخراج الأرواح المعذبة فيها وتخليصها من العذاب، ففي أعمال الرسل يقول بطرس: “سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه، ولم تترك نفسه في الهاوية (8)، ولا رأى جسده فساداً” (أعمال 2/31)، ويقول بطرس في رسالته عن المسيح: “ذهب ليكرز للأرواح التي في السجن” (بطرس (1) 3/19). وقد أضحت هذه الفكرة الغريبة معتقداً نصرانياً يقول عنه القديس كريستوم 347م: “لا ينكر نزول المسيح إلى الجحيم إلا الكافر”. ويقول القديس اكليمندوس السكندري: “قد بشر يسوع في الإنجيل أهل الجحيم، كما بشر به وعلمه لأهل الأرض، كي يؤمنوا به ويخلصوا”، وبمثله قال أوريجن وغيره من قديسي النصارى. وهذا المعتقد وثني قديم قال به عابدو كرشنا، فقالوا بنزوله إلى الجحيم لتخليص الأرواح التي في السجن، وقاله عابد وزورستر وأدونيس وهرقل وعطارد وكوتز لكوتل وغيرهم. وتعريبه: (لن تترك نفسي للهاوية)، أي للموت، فيما الترجمة العربية للمزمور تفيد موت المسيح، وأن الله لن يتركه في القبر، كما أن للهاوية معان أخرى محتملة، منها: جهنم (العدد 16/30)، ومنها أيضاً الفتنة والفساد (انظر: الأمثال 12/13).
ولما وصل النصارى إلى أمريكا الوسطى، وجدوا فيها أديانًا شتى، فخفّ القس لدعوتهم للمسيحية، فأدهشهم بعد دراستهم لهذه الأديان أن لها شعائراً تشبه شعائر المسيحية، وخاصة في مسائل الخطيئة والخلاص. (9) فكيف يفسر النصارى هذا التطابق بين معتقداتهم والوثنيات القديمة والذي جعل من النصرانية نسخة معدلة عن هذه الأديان؟ يقول الأب جيمس تد المحاضر في جامعة أكسفورد: “سر لاهوتي فوق عقول البشر، وليس من الممكن تفسيره حسب تفسير وتصور هؤلاء البشر”. (10) وقد صدق الله تبارك وتعالى، فأخبر أن ذلك الذي يقوله النصارى إنما هو مضاهاة لأقوال الأمم الوثنية وانتحال للساقط من أفكارهم
ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون (التوبة 30:9)،
وهو ما حذرهم الله من الوقوع فيه:
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل ( (المائدة 77:5).
هل افتدانا المسيح على الصليب؟
لقد كشفت لنا الدراسة الموثقة عن جملة حقائق لا يسع الباحث عن الحقيقة إلا أن ينحني لها، فقد ثبت لدينا نجاة المسيح عليه السلام من الصلب كما أنبأنا بذلك أسفار العهد القديم، وكما وعد المسيح أتباعه في العهد الجديد، ورأينا مكر الله يحيق بالتلميذ الخائن الذي خان سيده، فانتشبت أرجله في الشبكة التي أخفاها، ووقع في الحفرة التي حفرها. ورأينا ما يثبت صحة ما توصلنا إليه، فقد سجلته الدلائل المتناثرة في زوايا الكتاب المقدس، ورأينا ظلاله في تاريخ النصرانية، حيث تواصل إنكار النصارى لهذا الصلب المزعوم عبر تاريخ النصرانية القديم.
كما ثبت لدينا عند دراسة فلسفة الفداء والكفارة أن البشر بريئون مما صنعه آدم في القديم، وأن خطيئته لا تتجاوزه إلى غيره. ووضح لنا بالأدلة المتكاثرة أن ما يزعمه النصارى من توارث الخطيئة الأولى ولزوم الفداء بكائن إلهي إنما هو هراء تمجه العقول وتزدريه الفطر، وهو ظلم يتنزه الله عنه، وقد نقله بولس والمجتمعون بعده في مجمع نيقية من قصص الوثنيات السابقة للنصرانية.
الهوامش
(1) انظر : العقائد المسيحية بين القرآن والعقل، هاشم جودة، ص (219)
(2) انظر : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، محمد طاهر التنير، ص (34 – 35)، حوار صريح بين عبد الله وعبد المسيح، عبد الودود شلبي، ص (39) ، معاول الهدم والتدمير في النصرانية وفي التبشير، إبراهيم الجبهان، ص (147)، حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر ، أحمد عبد الوهاب ، ص (70-71)
(3) انظر : قراءات في الكتاب المقدس، عبد الرحيم محمد (2/238 – 239)
(4) انظر : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، محمد طاهر التنير، ص (29 – 32)
(5) انظر : مسيحية بلا مسيح، كامل سعفان، ص (45)
(6) انظر : مسيحية بلا مسيح، كامل سعفان، ص (45)
(7) انظر : مسيحية بلا مسيح، كامل سعفان، ص (45)
(8) النص اقتباس من بطرس لما ورد في سفر المزامير (16/10) ، وهو تحريف لما ورد في الأصل العبراني
(9) انظر : العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، محمد طاهر التنير، ص (102)
(10) حوار صريح بين عبد الله وعبد المسيح، عبد الودود شلبي، ص (41)
____________________
من كتاب هل افتدانا المسيح على الصليب؟
الدكتور منقذ السقار
اقرأ أيضا: