هل ارعوت الكنيسة عن صكوك الغفران؟

صكوك الغفران: لمحة تاريخية

جاءت صكوك الغفران كأثر للمجمع الثاني عشر المنعقد في روما سنة 1215 م، وتقرر فيه أن “الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء“. وقيل إن الأمر كان قبل ذلك –كما يروى صاحب كتاب (عقيدة الخلاص بالإيمان والأعمال في ضوء الكتاب المقدس)- من “أن الكنيسة الكاثوليكية أصدرت صكوك الغفران فى القرن العاشر، بناء على مجلس راتس سنة 934م، فأقبل معظم الكاثوليك على شرائها”.

وقيل إن البابا أوربانوس الثانى (ت: 1099) هو من ابتدع صكوك الغفران لشحذ همة الناس لخوض حروبه الصليبية ضد الشرق بعد دعوته. ووفقا لهذا القرار شرعت الكنيسة في ممارسات لا تليق برجال الدين منها ما أصدره البابا (لاون العاشر) من صكوك للغفران ليبيعها ويحصل على الأموال اللازمة لبناء كنيسة القديس (بطرس بروما)، لدرجة أن (حنا تنزل) لما كان يبيعها بأمره، كان يقول أن: “الرجل الذي ارتكب الخطيئة مع العذراء المباركة نفسها فإن هذه الصكوك كفيلة بأن تمنحه الغفران الكامل”!

وجاء في (موسوعة المعرفة) أن الكنيسة قد استندت في هذا الأمر على نصوص من الكتاب المقدس منها:

-“أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات” ( متى 16/18 – 19 )،

ولما كانت الكنيسة تعتبر نفسها وارثة لبطرس ورثت أيضاً هذا السلطان.

وأيضاً قول يوحنا لتلاميذه:

-“من غفرتم للناس خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت”.  (يوحنا 20:23)

-وقول بولس: “يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح”. ( تيموثاوس 2:1-5).

رمز لصك الغفران رسم عليه الصليب ويشير إلى أن “من صلى صلاة الأب الكنسية يمنح مائتا يوم من الغفران”.

فادعت الكنيسة أنها ورثت هذا الحق، وأن له الحق في احتكاره، وأنها الوسيطة بين الرب والناس، وانقطاع الصلة المباشرة بين الرب وبين العوام!

صكوك  الغفران أمام النقد

والمتأمل لهذه النصوص السابقة جميعا، يرى استدلالا كنسيا سخيفا بها. فالنص الأول والثاني لا يدلان دلالة قاطعة على أن الكنيسة وسيطة بين الناس وربهم. وغاية ما في الأول، هو تفويض هؤلاء بالقيام بالدعوة التي تفتح لها أبواب السماء. ويدل على هذا الفهم النص الثالث الذي يحصر الوساطة بين الناس وربهم في يسوع. فهل بطلت وساطة الكنيسة بهذا النص؟ّ!

أما قول يوحنا لتلامذته، فلا يدل على إعطاء الكنيسة حق الغفران؛ لأن معاقبة الرب للبشر منوطة بعدم غفرانهم لمن وقبولهم توبة من أساء إليهم، وهذا ليس خاصا بالكنيسة بل يعم جميع البشر. وقد يحمل على المعنى الأول وهو تفويضهم لأنهم حاملي الدعوة في الحكم بين الناس بأن فلانا قد أساء أولم يسيء. وليس فيه إشارة من بعيد ولا قريب إلى جنة أو إلى نار، أو تطبيق ثواب أو إنزال عقاب!!

لذا لما أوغلت الكنيسة في مثل هذه الهرطقات، ظهرت أصوات منددة بهذا العمل الكنسي الباطل الذي أساء استخدام الكتاب المقدس-وما يزال- في توجيهه حسب الرغبات والأهواء. فظهرت “الدعوة اللوثرية” في القرن السادس عشر الميلادي، وتطورت فيما عرف بعد بطائفة”البروتستانت” أي الاتجاه المعارض للكنيسة!

وقامت الكنيسة على إثر ذلك بطرد لوثر والحكم عليه بالحرمان والإيعاز إلى الحكام بملاحقته. إلا أن أثر الدعوة اللوثرية امتد إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية نفسها، فعمدت إلى الإصلاح لبعض معتقداتها حتى لا يلفظها الناس جملة، وتفتقد الأرضية التى لطالما اكتسبتها بين المجتمعات. ومن ثم انعقد صلح أوجسبرج عام 1530 م، والذي اعترف بعقيدتين لأوربا المسيحية: “الكاثوليكية” و”البروتستانتية”.

هل ارعوت الكنيسة عن مفهوم صكوك الغفران؟

ويبقي السؤال بعد كل دعوات الإصلاح، هل ارعوت الكنيسة عن مفهوم صكوك الغفران اليوم؟

قد تكون الإجابة على هذا السؤال بسيطة وسهلة لدى الكثير الذي يندفع إلى القول بعدم وجود صكوك غفران في الكنائس إلى الآن، ولكن الواقع يشهد بخلاف ذلك.

إن غياب الصكوك عن المشهد بملمسها المادي لا يعني غيابها بأثرها المعنوي، فما زالت الصكوك تمنح متمثلة في الأقوال الضالة المؤصلة لعقيدة الخلاص وعقيدة الغفران لكل من دخل في المسيحية، وأنه داخل في الملكوت، وأن المسيحي ليعمل ما شاء لطالما أن المسيح قد افتداه على الصليب! فالصكوك تسلم ولكن بدلا من أنها كانت تسلم للأيادي أصبحت تسلم للعقول؟!

لقد شابه هذا الفكر الخلاصي فكرا أيضا تسرب إلى بعض المسلمين وهو الفكر الإرجائي الذي يرفضه الإسلام لما له من أثر سىء في تجريء العباد على الخطيئة وتهوينها في أعينهم.

معنى الخلاص وفقا لمفكري المسيحية

يقول أحد مفكري المسيحية:

“والخلاص هنا يعني التحرير والعتق من العبودية.  والمستعبِد الرئيسي هنا هو الموت الذي تسلط على جميع البشر، والذي أصبح السلاح في يد إبليس الذي يشتكي به أمام الله على جنس البشر بسبب خطاياهم وتعدياتهم.  فإذا سقط هذا السلاح من يد إبليس فسوف تنكسر شوكته، وينعدم سلطانه على أرواح البشر التي كان يتلقفها بعد خروجها من أجسادها ليلقي بها في الهاوية والجحيم السفلي.  وقد جاء السيد المسيح إلى العالم وتمم هذا الخلاص بإبادته الموت بموته نيابة عن كل البشر.”

ولنا أن نسأل هل بعد أن تمم المسيح هذا الخلاص أصبحنا جميعا بلا خطيئة، وهذا ما لا يقول به عاقل؛ لأننا نرى مظاهر الإجرام، وأقررنا مبدأ الثواب على من أحسن ومبدأ العقاب على من أساء ؟ وإذا كان المقصود أن الخلاص سيتم في الآخرة، فهل يضيع حق المجني عليه الذي لم يقتص في دنياه ولم ينتصر لمظلمته هدرا؟!

ويقول مفكر مسيحي آخر:

“إن المسيح لم يكفر بموته على الصليب عن خطية آدم وحده كما يعتقد القائلون بالإيمان والأعمال. بل وكفر أيضاً عن كل خطايا المؤمنين الشخصية. فمن جهة تكفيره عن خطية آدم، قال الوحي عن المسيح إنه “يرفع خطية العالم” (يوحنا 1: 29)، وإنه “حمل خطية كثيرين” (أشعيا 53: 12). ومن جهة تكفيره عن خطايا المؤمنين الشخصية، قال الوحي عن المسيح إنه “أسلم من أجل خطايانا” (رومية 4: 5) وإنه مات من أجل خطايانا” (1 كورنثوس 15: 10)، وإنه “بذل نفسه لأجل خطايانا” (غلاطية 1: 4)، وإنه “صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا” (عبرانيين 1: 13)، وإنه “حمل هو نفسه خطايانا” (1 بطرس 2: 44) “.

وإذا كان الكتاب المقدس قد أرسى عقيدة الخلاص أو الفداء نتاج تحريف شابه، فلم تلام الكنائس على إصدار صكوك الغفران؟! وما الفرق إذا بين صكوك الغفران وهذه العقيدة التى في جوهرها ما هي إلا صك غفران؟! إن هذا التناقض ليدعو العقلاء إلى التأمل، ونبذ كل تلك العقائد الضالة.

كيف يتحقق الخلاص الحقيقي؟

كثيرا ما تقصد عبارات مفكري المسيحيين أن المقصود بالخلاص هو الخلاص من الخطيئة أو الغفران والفوز في الآخرة وكثيرا ما يقصدون به المعنى الأول، يقول أحدهم:

“في الوقت الذي كان فيه عمل يسوع هو فداء كل البشر، غُفِرَت خطايا كل مَنْ آمن به؛ فطالما آمنتَ به، فإنه سيفديك. إذا آمنتَ به، لن تصبح خاطئًا فيما بعد، بل تتحرر من خطاياك”.

ورغم أن الكتاب المقدس قد شابه التحريف في توجيه هذه العقيدة، فإنه ما زالت بقايا الحق تنطق فيه بأن الخلاص الحقيقي الذي جاءت بها رسالات الأنبياء في ثوبها غير المحرف: إنما هو الخلاص من طريق المعصية إلى طريق الطاعة والإيمان، ومن ثم الخلاص من عذاب الله في الآخرة. وينبغي أن يكون بالإيمان والعمل الصالح وحسب.

هذا ما دلت عليه كلمات المسيح نفسه إذ يقول:

“ولكن الذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص”. (متى، 24:13)،

ففي هذا النص إشارة إلى أن الخلاص يحتاج إلى بذل مجهود وعمل وكفاح حتى آخر نفس للمرء في هذه الحياة،‏ ومنه قول بولس لأتباعه الأوائل:‏

“اعملوا لأجل خلاصكم بخوف ورعدة”‏( فيلبي ٢:‏١٢‏).‏ 

كذا تركيز المسيح على أهمية الإيمان:

“انا الكرمة الحقيقية وابي الكرّام. كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه. وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر اكثر. انتم الآن انقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به. “(يوحنا، 1:15-6).

والخلاص كما جاء به المسيح يحتاج إلى مكابحة الشهوات والنفس والعمل الدؤوب، لا النوم والغفلة:

“هذا وانكم عارفون الوقت انها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فان خلاصنا الآن اقرب مما كان حين آمنّا. قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع اعمال الظلمة ونلبس اسلحة النور. لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد. ” (رومية، 13: 11-13)

ومما تجدر الإشارة إليه أن الغفران وقبول التوبة سر بين العبد وربه، لا اطلاع لأحد عليه. فغاية ما يظهره العبد هو التوبة اللسانية الظاهرية أمام البشر، وقد يقبلها هؤلاء؛ لأنهم لا اطلاع لهم على باطنه. أما الرب فهو الذي يطلع على القلوب ويمنح الغفران؛ لأنه الأوحد الذي يعلم ما بداخلها من توبة، أو إصرار على المعصية. وهذا المفهوم المنضبط -الذي جاءت به شريعة الإسلام تلك الشريعة السمحة المتوافقة مع الفطرة السليمة النقية التى فطر الله الناس عليها- يأتي على بنيان مفهوم الخلاص والغفران المسيحي من القواعد.


المراجع

-عقيدة الخلاص بالإيمان والأعمال في ضوء الكتاب المقدس.

-موسوعة المعرفة ويكيبديا.

مواقع ويب:

-www.kalimatalhayat.com

-st-takla.org

-ar.godfootsteps.org

-biblehub.com

-www.jw.org

-www.marefa.org

مواضيع ذات صلة