إعداد فريق التحرير
بخلاف النبيين موسى ومحمد عليهما السلام اللذين أقاما مجتمعين توحيديين يعبد فيهما الله وحده وفقا لعقائد قطعية واضحة المعالم وشرائع ونواميس مكتملة الأركان، رُفع السيد المسيح عليه السلام دون أن يقيم مجتمعا توحيديا مستقلا وذلك وسط تضارب في العقيدة والناموس اللذين تركهما نتيجة لرفعه المعجز الذي لا يقل إعجازا عن مولده الخارق على الرغم من تبيانه أمور هذه العقيدة والناموس. ولكن صدمة الواقع أنست البعض رسوخ المعتقد وقطعية الشرع.
وظلت رسالة السيد المسيح عليه السلام تائهة حائرة لأكثر من ثلاثة قرون، بين مؤمن برسالة السيد المسيح التوحيدية الخالصة لا يضره ما نسب إليها من الخرافات والأساطير جراء رفع السيد المسيح المعجز إضافة إلى مولده المعجز، وبين تائه حائر التبست عليه الأمور واختلطت عليه الروايات فلم يستطع التمييز بين ما هو من عند الله وما استحدثه البشر من الزيغ والضلال والتحريف.
وعن ذلك نقرأ في القرآن الكريم:
ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (مريم 19: 34-37)
وفي منتصف القرن الرابع الميلادي تقريبا، اعتنق أباطرة الإمبراطورية الرومانية المسيحية ولكن بعد تعرضها لكثير من التغيير والتبديل الذي نالها طيلة أكثر من ثلاثة قرون. فشرعوا، ولاسيما قسطنطين، في إعادة صياغتها وتقريبها إلى ما كانوا عليه من الوثنية والشرك حتى تتماشى مع خلفيتهم العقدية الفاسدة.
قسطنطين الأول
بادئ ذي بدء، كان قسطنطين الأول أول إمبراطور روماني يعتنق المسيحية، ولكن بعد مرور قرون من الشرود والتيه، كانت كفيلة بطمس حقيقة رسالة السيد المسيح عليه السلام.
فبعد اعتناق قسطنطين للمسيحية، حاول تعميمها على إمبراطوريته الرومانية، ولكن فوجئ بهلامية جوهرها العقدي والشرعي والخلاف الكبير بين رجالها بين مائل إلى التوحيد ونازع إلى التثليث. فانحاز قسطنطين إلى التثليث الذي كان أقرب ما يكون إلى المعتقدات الوثنية التي كانت عليها إمبراطوريته.
ولم يكتف قسطنطين بإقرار التثليث عقيدةً للمسيحية الجديدة التي ارتضاها دينا له ولإمبراطوريته وإنما شرع في إعادة صياغتها باستحداث أمور لم تكن على عهد السيد المسيح نفسه.
عقد مجمع نيقية وإرساء عقيدة التثليث (325م)
يخبرنا موقع الأنبا تكلا أن “هذا المجمع حضره 318 أسقفا، وفي البداية كان هناك 16 أسقفا مؤيدا للأسقف أريوس و22 أسقفا مؤيدا للبابا ألكسندروس والباقي لم يكن موقفهم قد تحدد بعد.”
وينقل الموقع عن أريوس قوله في المجمع: “إن الابن ليس مساويًا للآب في الأزلية وليس من جوهره، وأن الآب كان في الأصل وحيدًا فأخرج الابن من العدم بإرادته. وأن الآب لا يُرَى ولا يُكشَف حتى للابن؛ لأن الذي له بداية لا يعرف الأزلي، وأن الابن إله لحصوله على لاهوت مُكْتَسَب.”
وحسب رواية عزازيل، تخبرنا اللفائف السريانية المترجمة أن قسطنطين تدخل في إدارة الجلسات وفي الحوار اللاهوتي، ثم أملى على رجال الدين جميع القرارات.
ووفقا لموقع الأنبا تكلا، وَقَّع المجمع قرار حرم آريوس وأتباعه، وبعد هذا القرار بالحرم، أمر الملك بنفيه وحرق كتبه وإعدام من يتستر عليها. وكان البابا ألكسندروس قد عقد مجمعًا محليًا عام 318 بعد الميلاد، حرم فيه أريوس وتعاليمه، وجرده من رتبته الكهنوتية.
يوم الأحد كعطلة مسيحية (321م)
لم يؤثر عن السيد المسيح جعله يوم الأحد يوم راحة للمسيحيين ولم يرد بذلك أي نص في الكتاب المقدس. ومع ذلك، أعلن قسطنطين في السابع من مارس عام 321م أن يوم الأحد يوم عطلة رسمية تغلق فيه الأسواق والمكاتب العامة.
الاحتفال بأسبوع الآلام
على الرغم من أننا لا نجد أي ذكر لما يسمى بـ”أسبوع الآلام” في الكتاب المقدس ولا سبت لعازر ولا أحد السعف ولا اثنين البصخة ولا ثلاثاء البصخة ولا أربعاء البصخة ولا خميس العهد ولا الجمعة العظيمة ولا سبت النور ولا أحد القيامة، كما أنه لم يؤثر عن السيد المسيح أنه ذكر هذه التسميات أو أمر بالاحتفال بها، إلا أن قسطنطين أصدر أمرا إلى سائر أنحاء المملكة بألا يعمل أحد في أسبوع الآلام.
عيد القيامة أو الفصح المسيحي (325م)
على الرغم من أننا لا نجد أي ذكر لما يسمى بـ”عيد القيامة” في الكتاب المقدس، كما أنه لم يؤثر عن السيد المسيح أنه ذكر هذا العيد أو أمر بالاحتفال به، إلا أن قسطنطين أمر بالاحتفال بهذا العيد بناء على ما انتهى إليه مجمع نيقية بحيث يكون مخالفا لحساب اليهود الفلكي.
اكتشاف الصليب المقدس (326م)
كان قسطنطين الأول وأمه هيلانة أول من بدعوا خرافة اكتشاف الصليب المقدس. فعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة قرون على رفع المسيح وحادثة الصلب المزعومة، أرسل أمه هيلانة لاكتشاف الصليب المقدس في عام 326م. وبعد تهديد هيلانة لشيوخ اليهود بإلقائهم جميعا في النار وإلقاء شيخ يدعى يهوذا في حفرة عميقة بدون أكل أو ماء لمدة سبعة أيام وسبعة ليال رغم تأكيده عدم علمه بمكان هذا الصليب، وصلاته المزعومة وفقا للأصل اللاتيني لمخطوطة العثور على الصليب الحقيقي، حفرَ يهوذا في الأرض وعثر على الصليب المقدس.
وجعل اليوم الذي يفترض أنه عثر فيه على الصليب عيدا اسمه عيد الصليب يحتفل به المسيحيون حتى يومنا هذا.
وكما هو الحال بالنسبة للصليب المقدس، طلبت هيلانة من الأسقف كيرياكوس البحث عن المسامير التي علق بها المسيح على الصليب فصلى وتضرع، وكما هي العادة في المسيحية، شوهد نور عظيم وظهرت المسامير على الأرض، فحمل الصليب والمسامير إلى قسطنطين للتبرك بهم.
ومن الغريب أنه لم يؤثر عن السيد المسيح أن لصليبه ولا مساميره فضل يذكر حتى يبحث قسطنطين عنهم أو يتبرك بهم.
تكريم أجساد القديسين والشهداء والتبرك بها (326م)
على الرغم من خلو الكتاب المقدس ولاسيما العهد الجديد من أي أمر بتكريم أجساد القديسين أو التبرك بها كما أنه لم يؤثر عن السيد المسيح أي أمر بهذا الخصوص، إلا أننا نجد أن قسطنطين وأمه هيلانة أول من بدعا هذه البدعة في المسيحية المعاصرة.
فيذكر أن الملكة هيلانة أرادت تكريم الشهداء، وبناء الكنائس على اسمهم، الأمر الذى جعلها تقدم الهدايا، والذهب لمن يرشد على أماكن تم فيها دفن أجساد الشهداء، وهو ما جعل الكثيرين يقدمون رفات متعددة.
كتابة الأناجيل (331م)
قبل عقد مجمع نيقية، لم يكن هناك ما يسمى بـ”الكتاب المقدس” في شكله الحالي، وإنما كانت هناك أسفار وأناجيل ورسائل متفرقة. وفي هذا المجمع، تم اختيار نواة الكتاب المقدس الحالي من الأسفار والأناجيل والرسائل التي تتوافق مع العقيدة التثليثة التي ارتضاها قسطنطين، بينما تم إحراق وطمس الأناجيل والرسائل والنصوص التي لا تتوافق مع هذه العقيدة وذلك وفقا لرواية عزازيل.
وكلف قسطنطين يوسابيوس في 331م بإيصال خمسين نسخة من الكتاب المقدس لكنيسة القسطنطينية. وسجلت مكتبة أثناسيوس نحو 340 ناسخاً في الاسكندرانية لتجهيز الأناجيل.
بناء الكنائس المقدسة (335م)
على الرغم من أنه لم يرد في الكتاب المقدس ولم يؤثر عن السيد المسيح أي أمر ببناء كنائس في المواقع التي يعتقد المسيحيون أنه صلب ودفن بها كما أنه لم يشر إلى أي فضل لها دون غيرها، إلا أن قسطنطين أمر ببناء كنائس مقدسة نزولا على رغبة أمه هيلانة وتوصيات مجمع نيقية في مواقع يفترض أن السيد المسيح صلب ودفن بها.
فعلى سبيل المثال، أمر قسطنطين ببناء كنيسة المهد في الموقع الذي يفترض أن السيد المسيح ولد به، كما أمر ببناء كنيسة القيامة أو القبر المقدس في الموقع الذي يفترض أم السيد المسيح دفن به وقام منه، كما أمر ببناء كنيسة الصليب في الموقع الذي يفترض أنه تم العثور على الصليب المقدس فيه وذلك على الرغم من مرور قرون على رفع المسيح وجهل اليهود المعاصرين بهذه المواقع أصلا.
ثيودوسيوس الأول
على خطى قسطنطين، لعب أباطرة الرومان بعد قسطنطين دورا كبيرا في الحفاظ على شكل المسيحية التثليثية المعاصرة التي وضع قسطنطين لبناتها الأولى. فهذا هو ثيودوسيوس الأول يدعو لمجمع القسطنطينية الأول وهو المجمع المسكوني الثاني في عام 381م لتجديد الالتزام بعقيدة نيقية التثليثية والدفاع عنها ضد الأريوسية الأقرب إلى التوحيد وتأكيد ألوهية السيد المسيح والروح القدس ومساواتهما للآب.
ثيودوسيوس الثاني
وفي 431م، دعا ثيودوسيوس الثاني إلى عقد المجمع المسكوني الثالث في أفسس للرد على نسطور بطريرك القسطنطينية الذي سار على درب آريوس وغيره من حيث الميل إلى التوحيد وإنكار التثليث المحض وللرد كذلك على بيلاجيوس الذي كان ينكر الخطيئة الأصلية وعمل الروح القدس.
وسار أباطرة الرومان بعد ذلك خلفا عن خلف على خطى أسلافهم من حيث التمسك بالتثليث المحض والابتعاد عن أية محاولة للتوحيد حتى اتخذت المسيحية المعاصرة شكلها التثليثي المعاصر البعيد كل البعد عن المسيحية التوحيدية الحقيقية التي جاء بها السيد المسيح كإحدى رسالات دين الله الحق الداعي إلى توحيد الله في كل زمان وكل مكان.
ولذلك، جاءت رسالة النبي محمد تأكيدا لتوحيد الله الذي أكدته رسالات جميع الأنبياء وتصحيحا للمسار الخاطئ الذي اتخذته المسيحية المعاصرة التي مالت إلى الشرك وابتعدت كل البعد عن التوحيد الحقيقي الذي دعا إليه السيد المسيح.
_________
المراجع:
- القرآن الكريم
- الكتاب المقدس
- موقع الأنبا تكلا
- موقع صوت المسيحي الحر
- رواية عزازيل ليوسف زيدان
_________
اقرأ أيضا:
دور الباباوات الأوائل ومجمع نيقية الأول في صياغة المسيحية المعاصرة
التاريخ الأسود وأشهر الفضائح التاريخية لباباوات الكنيسة والأباطرة المسيحيين الأوائل
تاريخ المسيحية والتحول من التوحيد إلى التثليث (4/1)
تاريخ المسيحية والتحول من التوحيد إلى التثليث (4/2)