المفهوم اللغوي والاصطلاحي للنبوة في المسيحية
إن الناظر إلى مفهوم النبوة في الكتاب المقدس، يرى تخلخلا في المنهجية في التعامل مع هذا المفهوم. فنرى علماء المسيحية قد وقعوا فى تناقض عظيم في فهمه، حتى إننا لنلمس أحيانا من طريقة التلاعب بهذا المفهوم سلب المسيح -عليه السلام- هذه الصفة العظيمة التى اختصه الرب -سبحانه وتعالى- بها. بل إن المتتبع لهذا المفهوم فى عبارات كثير من مفكري المسيحية يخرج بالنتيجة الحتمية إلى افتقاد المنهجية فى التعامل مع هذا المفهوم الدقيق.
يقول القس عبد المسيح بسيط أبو الخير-كاهن كنيسة بمصر-معرفًا النبوة لغة:
“كلمة نبى فى اللغة العبرية والعهد القديم هى “نبي – Nabi” كما هى فى اللغة العربية، وينقسم العلماء والمفسرون فى تفسيرها وشرح معناها كالآتى:
1 – كلمة نبى مشتقة من كلمتى “نون – Nun” و”بيت – Beth” بمعنى “ينبع” أو “ينفجر”، وصيغته السلبية “أنفجر فيه” أو “أندفق فيه”. وهذا يعنى “أندفاق الروح فى النبى”.
2- الكلمة مشتقة من الأشورية أو الأكادية من الفعل “نابو – Nabu” بمعنى “يدعو” أو “ينادي”.
3- الكلمة مشتقة من الفعل العربى “نبأ – Naba”، مع ملاحظة أن الفعل العبرى “يتنبأ – Prophesy” وهو فى العبرية “نبأ”، ويعنى فى اللغة العربية “أعلن” أو “أخبر” بينما يعنى فى العبرية “تنبأ”.
4- هناك صلة بين كلمة “نبى” والفعل “بو” أى يدخل فى وبذلك يكون النبى هو من “يدخل فى علاقة مع الله”.
5- هناك ارتباط بين كلمتى “نبأ” و”نعم” التى تعنى يهوه، فيكون النبى هو “المتكلم بوحى الله”.
كما يستطرد فى بيان هذا المصطلح من وجهة نظره فيقول: “النبى إذاً هو الذى يكشف له الله أسراره التى يريد أن يعلنها للبشرية. ويؤكد ارميا النبى بالروح أن الأنبياء يقفون في حضرة الله، أو فى مجلسه السماوى، ويسمعون كلامه ومشورته الإلهية التى يريد أن يعلنها للبشرية…كما تدل المرة الثانية في العهد القديم التى يُذكر فيها لقب “نبى” فى الكتاب المقدس، على أن “النبى” هو “الذى يتكلم الله على فمه”.
لقد تكررت لفظة نبي في العهد القديم أكثر من 430 مرة في الكتاب المقدس ، منها حوالي 290 مرة في العهد القديم و140 مرة في العهد الجديد. كل ذلك يدل دلالة كاملة على أهمية مفهوم النبوة في الكتاب المقدس وأنه بذلك يعد عمادا من أعمدة عقائده.
هل كان المسيح نبيا؟
وبالإجابة عن التساؤل: هل كان المسيح نبيا؟
يجيب القس عبد المسيح عن هذا التساؤل قائلا: “السيد المسيح هو “صورة الله” أو “صورة الله غير المنظور، وصورة الله هو الله الذى إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مساوياً لله”.
ويستمر القس عبدالمسيح في الاجابة عن هذا التساؤل قائلا:”.. ومن ثم اتخذ (المسيح) ألقابا كثيرة كان من ضمنها لقب النبى؛ لأنه جاء فى الجسد، واتخذ صورة العبد، وظهر فى الهيئة كإنسان، وعمل أعمالاً إلهية قديرة لا تحصى، ولكنه أخفى لاهوته ولم يشر إلى لاهوته صراحة إلا فى مرات قليلة، وإن كانت معظم أعماله وأقواله تؤكد حقيقة جوهره وكونه الإله المتجسد. لذلك اعتقد الناس أنه كان نبياً “فقالت الجموع هذا يسوع النبى الذى من الناصرة“، “فلما رأى الناس الآية التى صنعها يسوع قالوا أن هذا هو بالحقيقة النبى الآتى إلى العالم“.
ويقول في موضع آخر: “ومع ذلك فقد مارس السيد المسيح عمل النبى ووظيفة النبوّة والتنبؤ، وقام بكثير من الأعمال التى قام بها الأنبياء ولكن بسلطان إلهى نابع من كونه الإله المتجسد وكلمة الله الآتى من السماء، فلم يقل مثل الأنبياء “هكذا يقول /أو قال الرب” وإنما أستخدم أقواله الإلهية، فقد كرر عبارة “الحق أقول لكم” 62 مرة، وعبارة “الحق الحق أقول لكم” 25 مرة”.
والعجيب في هذه الإجابات من القس عبد المسيح أنه جمع بين عدة متناقضات في شخص المسيح، فادعي من وجه أن المسيح هو الإله، وأنه ابن الإنسان، وأنه النبي من وجوه أخرى. ولما كان يصعب أن يجمع بين هذه الثلاثة في شخص واحد، أخذ التجسيد مطية لإقناعنا بهذا المعتقد، فادعى أن المسيح الإله تجسد في شخص ابن الإنسان النبي.
تناقض الموقف المسيحي في مفهوم النبوة
ولنا أن نتساءل إذا كان النبي هو من ينبىء عن الله الرب، فيتحصل لدينا مخبر ومخبر عنه، فكيف يكون المسيح نبيا بهذا المفهوم؟! فإما أن يكون نبيًا وإما ان يكون إلهًا، وإلا لوقعنا في اللبس إذ كيف يخبر الرب عن نفسه ويسمي نبيا؟!
والواقع أن عيسى-وفقًا للمعتقد الصحيح والذي عليه دين الإسلام دين الفطرة القويمة-إنما هو نبى مرسل من ربه وحسب. وما زالت بعض نصوص الإنجيل تنطق بهذا، ومنها أقوال المسيح:
“ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه” (مرقس 6: 4، متى 13: 57، لوقا 4: 24).
“ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم” (لوقا 13: 33).
وإذا زعم عبدالمسيح وغيره أن النبوة هنا بمعنى الإنباء عن الأمور المستقبلية وحسب، فلا شك أن هذا المعتقد يأتى على بنيان مفهوم النبوة من القواعد ويبطله؛ لأن النبي هو المخبر عن الإله، ولاشك أن ما فعل الإله منه ما هو ماضي بالنسبة لنا ومه ما هو غيب مستقبلي.
والمتأمل لكلمات القس يرى أنه في موقف المتحير: هل يجزم بأن يسوع كان نبيًا أم لا، فقال: إن المسيح فعل أفعالا للأنبياء، فزعم الناس أنه نبي، يقول:
“ومع ذلك فقد مارس السيد المسيح عمل النبى ووظيفة النبوّة والتنبؤ، وقام بكثير من الأعمال التى قام بها الأنبياء ،ولكن بسلطان إلهى نابع من كونه الإله المتجسد وكلمة الله الآتى من السماء، فلم يقل مثل الأنبياء “هكذا يقول / أو قال الرب” وإنما أستخدم أقواله الإلهية، فقد كرر عبارة “الحق أقول لكم” 62 مرة”.
إن هذا المفهوم المتذبذب للنبوة ينافي ما جاء في العهد القديم من بشارة بنبوءة عيسى إذ يقول الرب-وفقا للكتاب المقدس- لموسى:
“يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلى … أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، (التثنية، 15: 17-18)”،
فهل بفهم عبدالمسيح لهذا النص يكون الرب قد أقام ربًا نبيًا؟ وماذا عن كون عيسى أقنومًا من بين الأقانيم الثلاثة: فيقع السؤال من أرسل من؟!
هل يصح أن يتنبأ غير الأنبياء ؟
يزعم كثير من مفكري المسيحية أن النبوة غير محصورة في يسوع وغيره من الأنبياء السابقين، بل قد تمتد إلى غيرهم من الرسل وحواري عيسى وكتبة الأناجيل والرسائل. ويستدلون على ذلك ببعض النصوص الوارد فيها ثبوت النبوة لبعض الرسل والحواريين ومنها:
“ويهوذا وسيلا إذ كانا هما أيضا نبيين وعظا الأخوة” (أعمال الرسل 32: 15).
“وكان فى إنطاكية فى الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون برنابا وسمعان الذى يُدعى نيجر ولوكيوس القيروانى ومناين الذى تربى مع هيرودس رئيس الربع وشاول”. (أعمال الرسل 1: 13).
يقول القس عبدالمسيح معقبًا:
“كان أنبياء المسيحية قادة فى الكنيسة الأولى، وكانت قيادتهم روحية تعليمية رعوية فى إطار الجماعة المسيحية نفسها بالدرجة الأولى. فقد كان شاول، بولس الرسول، وبرنابا وسيلا ويهوذا ضمن أنبياء المسيحية”.
والعجيب أنهم يحصرون هذا المفهوم في كهنتهم إلى يوم الدين، ويمنعون نبوءة غير المسيحي مع أن المعنى الذى استباحوا به تخويل هؤلاء بالنبوة هو الوعظ والإخبار بالخير، أو الإنباء عن المستقبل، أو الإلهام وهو ما لا يستقل به الكتبة والحواريون:
“لأنكم تقدرون جميعكم ان تتنبأوا واحدا واحدا ليتعلم الجميع و يتعزى الجميع”. (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، 31:14)
إن التنبؤ قد جاء في الكتاب المقدس بمعان ومنها:
الوعظ والتعليم يقول بولس:
“أما من يتنبا فيكلم الناس ببنيان و وعظ و تسلية” (3:14)
“من يتكلم بلسان يبني نفسه و اما من يتنبا فيبني الكنيسة” (4:14)
ونجد في الاناجيل ما يشير إلى أنها مجرد جهد بشري، لا تدل على عصمة كاتبيها، ولا على نبوة أحد منهم، وأنهم كتبوا ما كتبوا على سبيل الخرص والظن، لا اليقين والقطع. ولو كان كل ما يقولون من مشكاة النبوة، ما حشو أناجيلهم بمثل تلك العبارات التى توهم الظن والتخرص! يقول لوقا في مقدمة إنجيله:
“إذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.” (لوقا1: 1-4).
أما بولس فهو أكبر الأفاكين والخراصين، وهو مبدل دين المسيح، وقد افترى إلهاماته ونبوته كى يروج لنفسه بين أتباع عيسى.
والمتأمل لنصوص الأناجيل يرى عبارات بشرية كثيرة لا علاقة لها بالوحي الذى لا دخل للصوت البشرى فيه. فالمفترض أن النبى حامل النبوة ينقل كلام الإله كما هو، ولا ريب أن العهد القديم أحسن حالا من العهد الجديد الذي لا يكاد يخلو فيه صوت الإله من صوت غيره معه، مما يدل على التصرف البشرى وخلو كاتبيها عن النبوة!
ومن تلك العبارات: الرسالات والخطابات بين كتبة العهد الجديد وخلانهم ،مما يدل على التدخل البشرى في النص الإلهى، فها هو يوحنا يقول:
“إِلَى غَايُسَ الْحَبِيبِ الَّذِي أَنَا أُحِبُّهُ بِالْحَقِّ.أَيُّهَا الْحَبِيبُ، فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرُومُ أَنْ تَكُونَ نَاجِحًا وَصَحِيحًا، كَمَا أَنَّ نَفْسَكَ نَاجِحَةٌ. لأَنِّي فَرِحْتُ جِدًّا إِذْ حَضَرَ إِخْوَةٌ وَشَهِدُوا بِالْحَقِّ الَّذِي فِيكَ، كَمَا أَنَّكَ تَسْلُكُ بِالْحَقِّ. لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلاَدِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْحَقِّ. أَيُّهَا الْحَبِيبُ، أَنْتَ تَفْعَلُ بِالأَمَانَةِ كُلَّ مَا تَصْنَعُهُ إِلَى الإِخْوَةِ وَإِلَى الْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ شَهِدُوا بِمَحَبَّتِكَ أَمَامَ الْكَنِيسَةِ. الَّذِينَ تَفْعَلُ حَسَنًا إِذَا شَيَّعْتَهُمْ كَمَا يَحِقّ للهِ، لأَنَّهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ خَرَجُوا، وَهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنَ الأُمَمِ. فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقْبَلَ أَمْثَالَ هؤُلاَءِ، لِكَيْ نَكُونَ عَامِلِينَ مَعَهُمْ بِالْحَقِّ.” (رسالة يوحنا الثالثة، 1-8).
كذا يضاف إلى ذلك كله ما نسب إلى بعض الحواريين من أمور لا تليق بمقام الأنبياء والرسل من خيانة بطرس للمسيح (لوقا 34:22) وإدانة المسيح لهذا الفعل (لوقا، 9:12).
إذًا فالرسل من تلامذة عيسى كما في الكتاب المقدس لم يكونوا رسلا بالمعنى الاصطلاحي، بل هم رسل عن المسيح نفسه يبلغون دعوته، لا أنهم رسل الإله يتلقون الوحي منه. كذا هم ليسوا أنبياء وإلا فلم يتنبأ المسيح بمعزى يكون مع أمته إلى الأبد بعد موته؟!
المراجع
-منقذ السقار، هل العهد الجديد كلمة الله.
-alkalema.net