يتعجب المتصفح للأناجيل من غضها الطرف عن نشأة المسيح عليه السلام في طفولته، فغاية ما تذكره نسبته بالبنوة ليوسف النجار ورحلته إلى أورشليم كعادة طقوسية لشعبه آنذاك. وهذا متى يسرد الأيام الأولى للمسيح في هذه السطور القليلة التالية:
“اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشأ ان يشهرها اراد تخليتها سرّا. ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك. لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل. هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا . فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع”. (متى، 18:1-25)
وأبان لنا أنه ولد فى بيت لحم وجاء مجوس المشرق حاملين نبوءة مولد ملك اليهود كى يسجدوا له. ويستطرد متى ما فى ذكر ما فعل هيرودس الملك بأمر المجوس:
“حينئذ دعا هيرودس المجوس سرّا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم ارسلهم الى بيت لحم وقال اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي. ومتى وجدتموه فاخبروني لكي آتي انا ايضا واسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا واذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع مريم امه. فخروا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرّا. ثم اذ أوحي اليهم في حلم ان لا يرجعوا الى هيرودس انصرفوا في طريق اخرى الى كورتهم. وبعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وامه واهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك. لان هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه. فقام واخذ الصبي وامه ليلا وانصرف الى مصر. وكان هناك الى وفاة هيرودس. لكي يتم ما قيل من الرب بال-نبي القائل من مصر دعوت ابني. حينئذ لما رأى هيرودس ان المجوس سخروا به غضب جدا. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم) (متى، 1:2-16)
وبعد أن سمع يوسف بموت الملك هيرودس ظهر الملاك في حلم ليوسف في مصر قائلا. قم وخذ الصبي وأمه واذهب الى ارض اسرائيل. فذهب إلى نواحي الجليل. وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة. (متى: 2، 19-23).
أما مرقس فلم يذكر عن طفولة المسيح ولا ولادته شيئا وازدلف إلى خبر يوجنا المعمدان وكرازته واجتماع الناس حوله ولقياه بالمسيح. وكذا يوحنا ساق حياة المسيح في كيره وغفل عن طفولته.
والعجيب أن بعضا من مفكرى الكتاب المقدس يقرون بتلك الحقائق لكنهم يصدرون لها تأويلات ممجوجة تأباها العقول السليمة فيقول القس سعود سهيل: “هي سنين صامتات لا تذكر الأناجيل والعهد الجديد عنها شيئا. وجل ما تذكره الاناجيل عن حياته معلومات قليلة جدا هي: ولادته (لوقا 2: 1-7). ختانه وتسميته عندما كان عمره 8 أيام (لوقا 2: 21). تقديمه للرب في الهيكل عندما كان عمره 40 يوما (لوقا 2: 22-24). هروب العائلة، يوسف ومريم مع الطفل يسوع الى مصر خوفا، من بطش هيرودس (متى 2: 13-15). اصطحاب يوسف ومريم للصبي يسوع الى أورشليم في عيد الفصح، عندما كان عمره 12 سنة (لوقا 2: 39-53). ثم تصمت الأناجيل ولا تذكر شيئا عن حياته لـ 18 سنة متتالية. منذ أن كان عمره 12 سنة وحتى عمر 30 سنة، حين بدأ يسوع خدمته وبشارته بملكوت الله. فالمسيح صرف 3 سنوات فقط في الخدمة، الى أن مات وقام وصعد الى السماء محقّقا الخلاص والفداء للعالم الخاطىء، عندما بلغ من العمر 33 سنة. وبالتالي، يتساءل البعض ماذا كان يفعل المسيح في تلك السنين الصامتات ؟”
وادعى هو وبعضا ممن وقف أمام هذا التساؤل أن التاريخ المسيحى توقف للحظات ليجيب عن هذا التساؤل لكن عن طريق “النصوص الأبوكريفا التى تتضمن مغالطات كريستولوجيه ولاهوتيه، لا تنسجم مع الصورة والمفهوم الصحيح عن يسوع المسيح، الذي يقدّمه الكتاب المقدس وكتب العهد الجديد القانونية كذهاب يسوع إلى الهند ودعوته للبوذية”، أو تتضمن أسطوريات من نسج الخيال كالخوارق التى ظهرت له في طفولته”.
ويصر ذاك القس أن هذه المرحلة الطفولية كانت مرحلة عادية لم تكتنفها أى معجزات ويبرر صمتها في التأويلات الزائفة الآتية: “هذه الآية (لوقا 2: 52) تعطينا فكرة، أن المسيح كان ينمو مثل باقي الناس، في الحكمة والقامة والنعمة. والملاحظة الثانية، عن عمل المسيح أثناء السنين الصامتات، اذ تشير أن يسوع عمل في مهنة النجارة، كما كان يعمل يوسف، كما يقول البشير مرقس، “أليس هذا هو النجار ابن مريم…” (مرقس 6: 3.رابعا وأخيرا: هناك درسا روحيا عظيما، تعلّمنا اياه السنين الصامتات، تعلّم كل الساعين منا نحو حب الظهور والنفوذ والسلطة، ألا وهو، أن هذا الاله العظيم المخلّص يسوع المسيح، صرف معظم حياته في تواضع وهدوء وسلام، بعيدا عن حب الظهور. لقد صرف 30 سنة من حياته معظمها بصمت، تحضيرا ليبدأ خدمة روحية مثمرة في ملكوت الله، غيرّت ولاتزال تغيّر الملايين عبر التاريخ”.
ولكن ألا يحق لكل باحث في التاريخ أن يعلم ما تضمنته هذه النصوص الأبوكريفا من مغالطات حتى يزنها ويضعها في موضعها الصحيح. فهل مجرد ذكر هذه النصوص لأمور خارقة للمسيح في طفولته كاف لأن يقدح فيها وتطوى ثم تعدم. ألا يمكن ان تكون هذه الخوارق إرهاصات لنبوته وأنها أنبأت عن فحوى رسالته.
إن القرآن كخاتم الكتب السماوية يعرض لهذه المرحلة الطفولية في حياة المسيح بشأن من التفصيل فنجد لسان المسيح يجأر وهو في المهد بهذه الحقيقة الصادمة لكثير من مسيحى اليوم وهى عبوديته لله سبحانه وتعالى وعدم كونه ابنا لله ولا ليوسف النجار. ولا يذكر القرآن أن مريم كانت مخطوبة ليوسف النجار أو أن عيسى ابن له:
“فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا . فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا.وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّـهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ” (19، 22-36).
إن هذه الآيات تصدع ببراءة مريم من الزنا أو حمل عيسى عن طريق زوج وتصدع بتلك العقيدة السليمة التى حملها عيسى ودعا إليها. وصدق الله إذ بين أن هذا القرآن جاء ليبين لأهل الكتاب كثيرا مما يختلفون ويتناقضون فيه من العقائد:
“يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (15:5-16)
والعجيب أن إنجيل لوقا جمع بين متناقضين فى إنجيله فى قول مريم للملاك حينما قال لها مبشرا إياها بأنها ستلد:
“لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله”: (كيف يكون هذا وانا لست اعرف رجلا)، (لوقا: 29:1-35)،
وعزا يسوعا ليوسف النجار على ما سارت عليه الأناجيل. بل يضيف إلى لسان الملاك كفرا حيث يزعم أنه أخبرها أن ابنها سيكون:
“القدوس المولود منك يدعى ابن الله “.(لوقا،36:1).
أما القرآن فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فأبطل قولهم وافترائهم أن المسيح ابن لله وكذا نسبته للبشر واكتفى بأن المسيح كلمة من الله اى مخلوق بكلمة منه:
“إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ”(45:3).