يزعم كثير من نصارى اليوم بأن النصرانية أو المسيحية دين عالمى خالد للبشرية، لا يسع أى أحد التدين بغيره أو حتى اعتبار غيره. لذا انهالت الحملات الصليبية على شتى البلدان وعلى رأسها الديار الإسلامية لفرض الدين المسيحي على البشرية جمعاء. فهم يزعمون أن الدين النصرانى ليس مختصا ببنى إسرائيل وحسب.
وهنا يشوب هذا المعتقد كثير من اللبس فالإسلام لا ينازع فى أن تعاليم عيسى فى زمانه كان ينبغى على من أرسل إليه أن يتبعها وكان الذين أرسل إليهم عيسى عليه السلام “بنو إسرائيل” كما يقول فى ذلك متى (5:10 -6):
“إلى طرق الأمم لا تتجهوا، ومدن السامريين لا تدخلوا، بل انطلقوا بالحري إلى الخراف الضالة من آل بنى إسرائيل” .إذا فمعتقد النصارى فى ذلك يخالف قول المسيح”.
لقد بشر المسيح عليه السلام بعده بأنبياء كذبة، وبشر أيضا بشخص صادق يدعى “الفاراقليط أو الباراقليط أو المعزى”، وبشر بذاك الموضع الذى سيخرج منه. وهنا نرى نصا من تلك النصوص الأنجيلية التى يبدوا انها تشير إلى مجىء النبى محمد صلى الله عليه وسلم ولا نقطع بذلك. ومنها قول المسيح:
“وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ”يوحنا (14: 16).
و “إن ذهبت سأرسله اليكم”.
وقد لبس بعضهم بأن النبى محمدا لم يمكث مع التلاميذ الى الأبد ، ولا يستطيع لانه انسان عاش بضعة وستين عاما، وأنه ليس هو المعزي المذكور في الانجيل .. وهذا خطأ لأن مفردة “معكم” لا يُقصد بها “التلاميذ” وإلا لما قال لفظة “للأبد” فالتلاميذ لم يعيشوا إلى الأبد . ويزعمون أيضا أن المقصود بالمعزى “روح القدس المنبثق من الله لأنه ازلي ابدي يمكث الى الأبد مع المؤمنين بالمسيح”. وعلى فرض هذا فمكوث الروح القدس الذى مهمته الرسالة للأنبياء سيكون معطلا أم أنه سيأتى نبى جديد ينزل إليه بوحى جديد؟!
يبدوا أن هذا النص الأنجيلى قد دخلته أيادى التلاعب بالنصوص، ومن ذلك تفسير المعزى “بالروح القدس” وقد درجت نصوص الكتاب المقدس من البداية على تسميته بالروح وليس “المعزى”.
كذا إقحام لفظة أرسله فلقد نقض بعضهم ان يكون المقصود بها محمدا لأن المرسلين الأنبياء يرسلهم الله وليس عيسى عليه السلام، ولكن قد يسأل أيضا: فهل يرسل عيسى الروح القدس ام هل يرسله الله؟!
لذا قد جاءت لفظة البشارة بلفظة العطية كما في إنجيل يوحنا( 6/27) إشارة إلى أن نبي آخر الزمان يحمل خاتم النبوة بين كتفيه، وذلك فيما ترجمته:
“لا تسعوا وراء الطعام الفاني بل وراء الطعام الباقي إلى الحياة الأبدية، والذي يعطيكم إياه ابن الإنسان لأن هذا قد وضع الله ختمه عليه”،
ونلاحظ أيضا لفظة “الأبدية” و”ختمه” اللتين تشيران إلى رسالة خالدة لا شىء بعدها وقد تحقق ذلك فى رسالة النبى محمد -صلى الله عليه وسلم. ولا ينافى وصف الروح القدس أنه النبى محمد -صلى الله عليه وسلم، لأن نصا إنجيليا قد فسر وصف صاحب الرسالة القادمة بعد عيسى عليه السلام بأنه “روح الحق” كما في إنجيل يوحنا (16/ 12-14):
“إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لى ويخبركم”.
إذا يبدوا ان لفظة الإرسال هنا أيضا شابتها أيادى التلاعب وقد تكون اللفظة الأصلية هى التبشير كما جاء بها القرآن (6/61):
“وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ”.
فعن الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
“إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين” .
وقال أحمد أيضا:
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا نبي الله ، ما كان بدء أمرك ؟ قال : “دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام”.
لقد جاء النبى محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام الخالدة بما فيها من القرآن الذى اشتمل على قصص الأنبياء السابقين ومنهم عيسى عليه السلام. أخبر القرآن بما كان من أمر عيسى عليه السلام وأمر والدته وأمر بنى إسرائيل معه عليه السلام ومكرهم به.
وذكر القرآن حقائق لم يكن النبى -صلى الله عليه وسلم- ليعلمها فى تلك البيئة المكية التى كان يندر بها أهل الكتاب إلا العدد القليل وهى بيئة خبا فيها صوت أهل الكتاب فى بحور الشرك والثنية، فما كان من النبى محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن ذكر وأنذر فذّكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالحقائق فى شأن عيسى عليه السلام. قال الله تبارك وتعالى:
“لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿٨٢﴾ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿٨٣﴾ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴿٨٤﴾ فَأَثَابَهُمُ اللَّـهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ” (82/5-84).
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم مستضعفا فى مكة وما زال يطارد حتى بعدما هاجر إلى المدينة فى حرب سجال بينه وبين مكة فلم لم يوارب محمد النصارى واليهود أو أن يدهن كي يأخذ تلك الفرقتين فى صفه ضد المجتمع المكى. كلا إنه لم يفعل ذلك وآثر قول الحق وبيان ما فى الأناجيل من حق وبيان ما فيها من باطل وزيف فى إنكار نبوته ورسالته مع مدحه إياها فى أصلها غير المحرف. قال الله تعالى:
“وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٦٩﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿٧٠﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٧١﴾” (69/3-71).