العلاقة بين الصوم والأخلاق
مما تجدر الإشارة إليه ارتباط مفهوم الصوم فى الإسلام كثيرا بالأخلاق وقد ألمح “الكتاب المقدس” إلى ذلك ولكن جاءت إشارة قليلة إلى ذلك وكلها تدور حول قرب العبد من ربه حال الصوم وكونه فى أرقى درجات السمو ومن ذلك واتفق الكتاب المقدس مع القرآن فى قرب الصائم من ربه يقول:
“اعلموا أن الرب يستجيب لصلواتكم إن واظبتم على الصوم والصلوات أمام الرب” (سفر يهوديت 4: 12)
ومن ذلك أيضا نهى المسيح عن التشبه بالفريسيين فى ريائهم بالصوم، حيث أوردت إشارة خافتة إلى ذلك:
“وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً” (إنجيل متى 6: 16-18)
بيد أن المفهوم المسيحى للصوم بالنظر إلى الكتاب المقدس يفتقر إلى الشمولية مقارنة بالمفهوم الإسلامى للصوم متمثلا فى نصوص القرآن التى تتحدث عن الصوم وعن الرباط الوثيق بينه كطقس تعبدى وكونه عبادة ترسخ الأخلاق القويمة؛ كذا إبراز القرآن والحديث النبوى العلاقة بينهما كثيرا، فحينما ذكر الله سبحانه وتعالى فرض الصيام بين العلة من فرضيته وهما :
أولا: أنه ما من أمة بعث إليها رسول إلا وقد فرض عليها الصوم والغرض الثانى تحقيق التقوى. قال الله سبحانه وتعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (183:2).
وفى الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
“قال الله عزوجل: كل عمل بن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” رواه البخاري ومسلم.
وعن علقمة والأسود-رضي الله عنهما- قالا:
“كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)” متفق عليه. (الباءة) في اللغة الجماع، والتقدير: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح. وقيل: المراد بالباءة هنا مؤن الزواج. و(الوجاء) الوقاية والحماية.
يقول الغزالى:
“اعلم أن الصّوْم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صَوْم العموم: فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص: فهو كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنِيَّة والأفكار الدنيوية، وكفّه عما سوى الله عزّ وجل بالكلية” (أبو حامد الغزالي: أسرار الصوم).
وقد ألمح الكتاب المقدس لذلك أيضا فى النصوص التالية:
“صرخ كل الشعب إلى الرب بابتهال عظيم، وذَلَّلوا نفوسهم بالصوم والصلاة هم ونساؤهم” (سفر يهوديت 4: 8).
و”أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي” (سفر المزامير 35: 13). “نَادَيْتُ هُنَاكَ بِصَوْمٍ عَلَى نَهْرِ أَهْوَا لِكَيْ نَتَذَلَّلَ أَمَامَ إِلهِنَا لِنَطْلُبَ مِنْهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمَةً لَنَا وَلأَطْفَالِنَا وَلِكُلِّ مَالِنَا” (سفر عزرا 8: 21)
و”وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ” (سفر يوئيل 2: 12)
ولكن التفسير الكنسى الموجه لتلك النصوص وما أدخلته عليها من تأويلات باطلة أذهب بريقها وأفقدها شموليتها. والحق ما شهدت به الأعداء فهذا الأب د. لويس حزبون يعرف الصوم بأنه: “شكل من أشكال التوبة الذي يعبر عن الارتداد في علاقة الإنسان مع الذات والله والآخرين”.
فبالمقارنة مع التعريف الإسلامى للصوم يظل قاصرا فى نظرته أولا للصوم على أنه شكل من الشكليات المظهرية بينما بين القرآن أن الصوم عبادة من العبادات التى قامت عليها كل الشرائع حتى الشرائع السابقة للإسلام. كذا يكتنف هذا التعريف القصور فى تقديمه الجانب الروحى على الجانب العملى.
العلاقة بين الجانب الروحى والجانب الشعائرى
أما فى الإسلام فنلاحظ أن الجانب العبادى العملى لا ينفصل عن الجانب الروحى فالعبادة نفسها نلمس فيها الجانب الروحى جانبا إلى جنب مع الجانب العملى العبادى. فالصوم هو: “الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية”.
وقد بالغ شراح الكتاب المقدس والبابوات فى تعظيم الجانب الروحى على الجانب العبادى مبالغة فى قول المسيح وذمه لرياء الفريسيين.
فالصوم كما هو عبادة شعائرية ذات طقوس معينة فهو يحمل فى طياته الجوانب الأخلاقية من تهذيب النفس.
ونلحظ تفريق الأب بين النوعين فى شأن الصوم وهو أمر ينافر المنطق القويم، يقول:
“للصوم وجهان جسدي وروحي. فالوجه الجسدي للصوم هو يعرض الإنسان ذاته عن العواطف المنحرفة ويكبح الرذائل وسيما كبرياءه ويُمكّنه من التسلط على غرائزه من حرية القلب ومغريات العالم كي تجدد روحاً ونفساً ويتعلق قلبه بالله. لذا فالصوم لا يقوم على الفم فحسب، وإنما العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم، ولا يقوم على التبدل الذي طرأ على طعامنا فقط بل على قلبنا. فمن يستطيع أن يسيطر على الأشياء المسموحة يستطيع أن يسيطر على الأشياء الممنوعة. فالصوم يتطلب جهد يقوم بقهر الإنسان لذاته، بغية التقرب من الله ومن البشر، إذ أن “الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف”. (متى 26: 41).”
الصوم والوسطية والاعتدال
إن المفهوم المسيحى المعاصر للصوم قد خالف مقتضيات الفطرة الإنسانية فى جوانب كثيرة، من ذلك تنكب طريق الوسطية التى شرعها الإله الحق لعباده متمثلة فى رسالة الأنبياء السمحة.
إن مقتضيات الدين الحق تنطلق من الحفاظ على الشرائع كما أنزلها رب السماء دون تمييع او تحريف أو التعنت فى لى أعناقها بدافع التشديد.
وبالنظر إلى واقع المسيحية المعاصرة نرى خلاف ذلك سيما فى الصوم حيث أصبحت الكنيسة هى التى توزع رخص الإفطار وهى التى تلزم من شاءت ومتى شاءت الصوم بطقوس معينة تحددها هى حيث تغيب النصوص المقدسة عن المشهد ولا يملك العامى إلا التنفيذ وإلا يتم طرده فى الحال وإخراجه من الملكوت.
بينما نرى النظرة الوسطية للإسلام على النقيض من ذلك فهى تنطلق من الحفاظ على النص القرآنى المقدس مع تطبيق مقتضاه كما جاء به المبلغ عن ربه وهو الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ،وتفسيره فى ضوء اللغة والسياقات التى أنزل فيها القرآن دون التدخل فى النص أو توجيهه حسب الأهواء البشرية.
ويلمس الناظر من ذلك أن سماحة النص ووسطيته تنطلق من ذاته فليست السماحة واليسر من خارج النص وإنما يستخرجها الفقيه من النص ذاته. يقول الله تبارك وتعالى عن أمة الإسلام التى حازت الخيرية التى انطلقت من سماحة ووسطية تشريعها:
“وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة:143].
والوسطية في الإسلام وسطية جامعة، تمثل موقفًا ثالثا بين القطبين المتقابلين والمتناقضين، لكنها لا تغاير هذين القطبين مغايرة تامة، وإنما تَجمع منهما عناصرَ الحق والعدل؛ لتكوِّن منها وبها هذا الموقف الوسطي الجديد، فهي في حقيقتها رفضٌ للغلوّ الذي ينحاز إلى قطبٍ واحدٍ من هذين القطبين: غلو الإفراط أو غلو التفريط.
فوسطية الإسلام الرافضة للغلو المادي والغلو الروحي هي وسطية لا تغير المادة والمادية، ولا الرُّوح والروحانية كلية، وإنما هي الوسطية الجامعة لعناصر الحق والعدل من المادية والروحانية جميعا، على النحو الذي يوازن توازن العدل بينهما؛ ولذلك فإنها تصوغ الإنسان الوسط: راهب الليل وفارس النهار، الجامع بين الفردية والجماعية، بين الدنيا والآخرة، بين التبتل للخالق والاستمتاع بطيبات وجماليات الحياة التي خلقها الله وسخرها لهذا الإنسان.”ويتضح هذا فى حديث الثلاثة نفر الذين قدموا على بيوت النبى يسألون عن عبادته:
“فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.(رواه البخارى)
ونلمس غياب جانب التيسير فى بعض تلك الأمور المتصلة بالصوم فى الشأن المسيحى المعاصر، فنرى تحريم ما أحلها الله بدون نص إلهى واضح صريح فى ذلك. فنرى تحريم بعض أنواع الطعام كاللحوم والجبن والبيض دون بعض وقد خلت النصوص المسيحية المقدسة عن ذلك كله. وبسؤال أساطين المسيحية عن مستند تلك التشريعات لا تأتيك إلا الإجابة: “إن هذا موكول إلى تقدير رجال الكنيسة!”
التشريع الإلهى والأهواء البشرية
فأين التشريع الإلهى من ذلك وكيف وكل ذلك الأمر إلى أهواء أناس يصيبون ويخطئون؟ وكيف يتدين المرء بقول لا مستند له من ربه! يقول الأب لويس حزبون:
“رسم السيد المسيح لنا الخطوط الرئيسية للصوم، غير أن لم يحدد أياما للصيام , ولا ساعة لبداية الصوم كما لم يحدد لهذا الصيام التزامات أو ممنوعات أو مباحات, إنما أنهى عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركا التفاصيل للكنيسة لتبتّ فيها، ولتفسر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسبا لتحقيق مفهوم وهدف الصوم. فوضعت الكنيسة قوانين للصيام. وغايتها أن تكفل للمؤمنين الحد الأدنى الذي لا بد منه في روح الصلاة وفي الجهد الأخلاقي كي يتحد الجميع في ممارسة مشتركة لأعمال الصوم والانقطاع للكفر بذواتهم والنمو ونمو في محبة الله والقريب”
واعجب من ذلك أن نرى صوما صريحا لا يعرف المسيح عنه شيئا فهو بدعة محضة من بدع رجال الكنيسة بعد موته، يقول الأب:
“أما الصوم يوم الجمعة فهو تذكار لليوم الذي صُلب فيه السيِّد المسيح ومات على الصليب. فالكنيسة الكاثوليكية منفتحة في هذا الخصوص تحترم حريتنا وتعطينا المجال للاختيار فهي تعرض ولا تفرض، ولكي يتم تجنب الفوضى تحدد عمر الصائم وفترة الصوم وأنواع المأكولات وغايات الصوم وطرقها وتطلب من المؤمنين تطبيقها طواعية وليس بالإكراه”.
وقد طال التدخل الكنسى كل الجوانب المتصلة بالصيام كالعلاقة الجنسية بين رجل وزوجته فأباحت لمن اضطر لذلك أن يعاشر زوجته بإذن من أب الاعتراف! وقالت الأساقفة إن ممارسة العلاقة بين الزوج وزوجته خلال ساعات الصوم لا تؤدى إلى الفطر النهائى والخروج عن الصوم، لكنها تعتبر فطرًا كمن شرب كوبًا من الماء فكسر صومه الانقطاع!.
إن الدين القويم يقوم على إلغاء كل الوساطات بين الإنسان وربه فوظيفة الرسول ومن قام بدوره من حملة الرسالة بعده هى البلاغ وحسب فأين لهؤلاء الأساقفة من معرفة ما تكنه صدور العباد كي يمنحون من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون. ففى مقام الدعاء يلغى الرب سبحانه وتعالى كما أخبر القرآن كل الوساطات بشرية كانت أو غير بشرية حال الاتصال به حيث يقول:
“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (60:40).