الدين بين تسلط الكهنوت وتحرر النفوس

ما أن انفردت أيادى الرهبان والقساوسة بالنصوص الإلهية حتى تسلطوا على تفسيرها وتوجيهها، يقربون من يشاؤون ويبعدون من يشاؤون وصار بأيديهم من يدخل الملكوت ومن يخرج منه ومن يمنح الغفران ومن لا يمنحه.

المسيحيون بين تسلط الكهنوت وتحرر النفوس

ولعل هذا كله يفسر الانقسام الواضح فى المسيحية المعاصرة بين الكاثوليك والبروتستانت الثائرين على بعض تلك الطقوس الكنسية.  فالمذهب البروتستانتى ظهر فى أوائل القرن السادس عشر، وتعنى البروتستانت Protestantism أى نحلة الاحتجاج أو الاعتراض. وقد دعا إلى ظهور هذه النحلة مظاهر الفساد الكنسى الكاثوليكى وطقوسه وبدعه ومسلك قساوستها من الاستبداد بالحكم الدينى وتحكمهم فى شؤون الحياة حتى العلمية منها.

المسيحيون بين تسلط الكهنوت وتحرر النفوس

ومن ذلك ما سارت عليه كنيسة روما من فرض اتاوات وضرائب باهظة على التابعين لها كانت توزع على رجال الكنيسة بينهم لينفقوها فى شؤون ترفهم وشهواتهم. ومن ذلك تحريم الزواج للرهبان والقساوسة وما أدى إليه من انتشار الفسق والفجور بين رجالها ونسائها.

لقد بلغت سطوة رجال الدين فى تلك الأزمنة مبلغها ومن ذلك ما اتخذه مجمع لاتيران الرابع “Coincile of Latiran” المنعقد سنة 1215 بشأن الهراطقة إذ أباح للكنيسة استئصالهم. وكانوا يعنون بالهراطقة كل من يرى رأيا يخالف رأى الكنيسة فكان يحكم عليه بالإعدام أحيانا والطرد أحيانا أخرى وانشئت محاكم لذلك.

ومن ذلك صكوك الغفران التى اتخذتها الكنائس وسيلة لجلب المال والتربح حتى إننا نطالع هذا النص الغريب لها:

“ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة. وأنا بالسلطان الرسولى المعطى لى أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التى استوجبتها…”

التلاعب بكلام الله

وكل هذا ينبىء عن خلل كبير واقع من رجال الدين المسيحى فى التعامل مع حكم الله والتلاعب به. وقد نعى القرآن مسالكهم:

“أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ”.(5:50).

لقد بلغ التلاعب بحكم الله إلى دائرة الحلال والحرام وفقا للأهواء: ومن ذلك إباحة الخمر. فلقد اعتادت كثير من الكنائس شرب الخمر مع الخبز تقليدا للعشاء الربانى الأخير للمسيح وفقا للكتاب المقدس ويعتقدون أن الخبز والخمر بعد إعدادهما بهذه الصورة يصيرا أجزاء من جسد المسيح ودمه. وبذلك يمتزج لحم المسيح ودمه بلحم من يتناولهما وبدمه. وبذلك يصرح القرار الذى صدر من مجمعى ترنت  Council de Trente المنعقدين سنتى 1545 و1563. ويبدو التحريف الواضح لنصوص الكتاب المقدس فالمسيح لم يشرع لأمته شرب الخمر وإنما وافق ذلك أهواء ناقلى الأناجيل فأدخلوه فى الإنجيل.

وهذا أحد المعلقين المسيحيين يوجه هذا العشاء توجيها عقديا ساذجا يقول:

“نجد أنه حينما كسر الرب الخبز أمامهما فتحت أعينهما وعرفوا الرب يسوع فاختفى من أمامهما. والمعنى أنهم ونحن لن نعود نراه على الأرض بهيئة جسمية بل في صورة خبز وخمر. فهو يقدم نفسه يوميا لكنيسته = جسده – ذبيحة حية دائمة – خروف قائم كأنه مذبوح  يعطى غفرانا للخطايا وثباتا فيه – في جسده – وحياة أبدية.”

ويقول:

“عوضًا عن كأس الخمر صرنا نشرب دمه غفرانًا للخطايا ولننال حياة أبدية.”رغم وجود نصوص أخرى فى الأناجيل تخالف ذلك وتحرم الخمر ومنها:

وفى سفر اللاويين: 10: 9:

“خَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكَيْ لاَ تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ”.

وفى سفر العدد 6: 3

“فَعَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ، وَلاَ يَشْرَبْ خَلَّ الْخَمْرِ وَلاَ خَلَّ الْمُسْكِرِ، وَلاَ يَشْرَبْ مِنْ نَقِيعِ الْعِنَبِ، وَلاَ يَأْكُلْ عِنَبًا رَطْبًا وَلاَ يَابِسًا”.

سفر التثنية: 28: 39:

“كُرُومًا تَغْرِسُ “كُرُومًا تَغْرِسُ وَتَشْتَغِلُ، وَخَمْرًا لاَ تَشْرَبُ وَلاَ تَجْنِي، لأَنَّ الدُّودَ يَأْكُلُهَا”.

فأى النصوص يتبعون! كذا التلاعب بدائرة الحلال والحرام فيما يخص كثير من التشريعات الإنسانية الاجتماعية التى ترتبط بالإنسان ارتباطا وثيقا كالزواج والطلاق وغيرها.

وهنا يقف الإسلام مع المسيحية المعاصرة على مفترق الطرق فليس لأحد غى الإسلام أن يحرم ما أحله الرب أو يحل ما حرمه الرب سبحانه وتعالى. وهنا يقع البون الشاسع بين طريقة علماء الإسلام فى إرساء الأحكام وطريقة الرهبان.  فطريقة علماء السلام تنبنى على أصول راسخة وتخالف المسيحية المعاصرة فى وجهات من بينها:

أولا: العصمة لله ولرسوله

فالمجتهد المتعامل مع النص غير معصوم وكلامه إن خالف الدليل من المعصوم مردود وغير مقبول وهذا ما جرى على لسان أئمة الإسلام:

قال الإمام الشافعي:

“إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط”.

وقال الإمام أحمد:

“لا تقلدوني ولا تقلدوا مالك و لا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا”.

وقال الإمام مالك:

“كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وفى حال خطأ العام المجتهد فى التعامل بالاستدلال من النص الإلهى فاجتهاده غير ملزم إذا ما احتمل الدليل مفاهيما أخر تخالف ما قال. ففى الحديث عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال:

“كان (صلى الله عليه وسلم) إذا بعث أميرًا على جيش وصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال… (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا)”.

لأنه لا يعلم حكم الله إلا الله. كل هذا ليحافظ الإسلام على كلمة الإله والوحى الإلهى أن يحوز غيرها قدسيتها.

لذلك كررت نصوص القرآن التركيز على قضية عدم خلط حكم الله بحكم البشر فيقول القرآن: “إن الحكم إلا لله”.(12:40)،  وأن من تعدى ذلك إلى الحكم بغير ما أنزل الله فقد كفر بالله.

ثانيا: مفهوم رجال الدين

يختلف هذا المفهوم عما لدى المسلمين، فالإسلام  ليس له رجال دين بالمعنى المسيحى الكنسى، وإنما للإسلام علماؤه الذين يقومون به. فباب الاجتهاد مفتوح للجميع بشرط التزود بأدوات الاجتهاد والاستنباط. فالدين لجميع أتباعه لا يحتكره أحد ويمنعه عن غيره. وليس للدين لغة خاصة معينة تحتكرها طائفة معينة كما يزعم الكاثوليك فاللغة العربية لغة القرآن. فلا كهنوت فى الإسلام.

ثالثا: لا صكوك غفران فى الإسلام

إن مهمة علماء الدين فى الإسلام تختلف عما عليه رجال المسيحية المعاصرة من احتكار سبيل الجنان  والغفران أو الشقاء  والنيران؛ فالإسلام يهىء المسلم للاتصال بربه بدون واسطة:

“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”.(40:60).

ولقد استبدت الكنيسة الكاثوليكية بهذا الحق الإنسانى الذى كفله الإسلام لكل البشر. وإن كان المذهب البروتستانتى قد رفض هذا المفهوم كالإسلام لكنه لا يخلو من خلل أيضا فيه فما زالت الكننيسة البروتستانتية توجه كثيرا من نصوص الدين وتنزلها حيثما شاءت وأرادت.

إذا فالحكم الشرعى فى الإسلام قائم على أصول من بينها عدم خلطه بأحكام البشر وقواعد للاستنباط متاحة للبشر لمن قدر على تحصيلها خلافا للوجهة المسيحية التى احتكرت النصوص الإلهية واحتكرت تفسيراتها.


مراجع:

على وافى، الأسفار المقدسة فى الأديان السابقة الإسلام.

الكتاب المقدس،St-Takla.org.

موريس بوكاى، القرآن والتوراة والإنجيل؛ دراسة في ضوء العلم الحديث.

مواضيع ذات صلة