لقد دعا المسيح عليه السلام إلى عبادة الله وتوحيده وإفراده وحده بالعبادة وأنكر على من غالوا فى شخصه. قال الله-سبحانه وتعالى على لسان عيسى عليه السلام:
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (القرآن:19:30).
وأبان القرآن الكريم أن الخلاف قد اشتد بين أتباعه بعد موته وانهم تفرقوا أحزابا فى أمره:
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. (القرآن: 19:37)
رسالة المسيح فى ثوبها الأصيل
ورغم ما أصاب الإنجيل من تحريف لهذه الرسالة التوحيدية الخالصة، فلا تزال بعض كلماته تنطق ببعض الحق، فحينما سئل المسيح عن أعظم وصية قال:
“الوصية الاولى: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الأحد …إن الله واحد لا إله سواه” .(سفر التثنية، 6/4).
ولقد ظلت تعاليم المسيح فى مسيرتها التاريخية بعد موته تنالها أيادى التحريف والتغيير والتبديل، ولكنها نالت فى المرحلة البوليسية أوفر النصيب من ذلك التحريف والتبديل. ولعل هذا يستدعى منا إطلالة سريعة على السيرة الذاتية لبولس ذاك الرجل الذى تطورت على يديه المسيحية تطورا جوهريا.
من هو بولس
ولد بولس الرومانى في طرطوس وقد كان بولس يهوديا من الفريسيين على أرجح الأقوال وكان اسمه شاول Saul. يقال إنه كان يضمر عداء شديدا للمسيحية. وذكر أنه كان يدل على من اتبع المسيح كى ينال سوء العذاب.
زعم بولس أنه رأى المسيح فى عمود من نور بعد صلبه ورفعه فهداه إلى الصراط المستقيم وجعله من رسل البلاغ. و زعم أنه قال له: “شاول شاول، انت تضهدني” فاعتنق المسيحية ، و تبع المسيحيين. (اعمال الرسل: 9 : 1 – 30، 22 : 3 – 21، 26 : 9 – 23 ).
ولا تكاد تجمع الكتب المسيحية على نسب له لذلك عد من المجهولين. ولم يعرف عنه الكثير إلا ممن كلامه عن نفسه. وقد تشكك الحواريون فى أمره فى البداية وظنوا أنه من المنافقين، ولكن يذكرون أن برنابا-الذى اختلف معه بعد ذلك- ثبت الحواريين فى أمره وقص عليهم قصة إيمانه فاطمأنوا إليه. وظل يدعوا إلى المسيحية بعقائده حتى قتل فى اضطهاد نيرون سنة 66 أو 67م.
وينسب لبولس أربعة عشر سفرا من أسفار العهد الجديد تسمى “رسائل بولس” ولمع نجم بولس فى المسيحية بسبب هذه الرسائل حتى صار “الرسول الكبير”.
بولس ورؤيته للمسيح
قال زونكليش وغيره من فرقة البروتستنت:”إن رسائل بولس ليس كلام مندرج فيها مقدساً، وهو غلط في الأشياء المعدودة. وكلام بولس على تقدير صحة النسب إليه أيضاً ليس بمقبول عندنا لأنه عندنا من الكاذبين الذين كانوا قد ظهروا في الطبقة الأولى، وإن كان مقدساً عند أهل التثليث”.
ومسيح بولس هو ابن الله الذى له طبيعتان طبيعة الإنسان وطبيعة الإله (روما 8: 3،23-4:4) تجسد واتخذ صورة عبد (فيلبى 2:7)، وتحدر من صورة إبراهيم حسب الجسد (غلاطية 3:15) ومات مصلوبا وقبر وقام من بين الأموات (كورنثوس الاولى 1:24،27، وفيلبى 15).
لقد أحدث بولس فى المسيحية تحولا بارزا وجوهريا فبعد أن كانت تعاليم المسيح مكملة لشرائع موسى عليه السلام بقول عيسى:
“لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (متى:5:17).
،جعلها رسالة عالمية مختلفة عن شريعة موسى وهو ما أثار حنق اليهود عليه. وأبطل بولس كثيرا من تلك الشرائع كالختان الذى كان ممتدا من شريعة اليهود، بل وأحل ما لم يحله المسيح عليه السلام يقول:
“ولكننا الآن تحررنا من الشريعة، لأننا متنا عما كان يقيدنا، حتى نعبد الله فى نظام الروح الجديد، لا فى نظام الحروف القديم”. (رسالته إلى كنيسة روما: 7/6).
وأبرز بولس وطور عقائد التثليث والقول بالحلول والصلب وتأويلات الفداء مؤولا نصوص الاناجيل تأويلا ميتافيزيقيا غنوصيا فجعل من المسيح صورة للإله .
وهكذا حول بولس تلك الفرقة العيسوية التى كانت فرقة تتبع تعاليم المسيح ممزوجة بتعاليم اليهود إلى فرقة مستقلة تسمى “المسيحية” (أتباع عيسى) لكنها مسيحية مغايرة للمسيحية بمعنى اتباع المسيح وحسب (أعمال الرسال: 6:11). يقول فى رسالته إلى كنيسة كورنثوس الأولى، (15:47):
“الإنسان الأول من التراب فهو أرضى والإنسان الآخر من السماء، فعلى مثال الأرضى يكون أهل الأرض، وعلى مثال السماوى يكون أهل السماء، مثلما لبسنا صورة الأرضى، فكذلك نلبس صورة السماوى”.
ويقول فى رسالته إلى العبرانيين(1:3):
“به خلق كل شىء، فى السموات وفى الأرض ما يرى وما لا يرى ”
ويقول فى رسالته إلى أهل كولوسى: (3:1):
“المسيح جالس عن يمين الله”.
وهكذا اختلطت بقية تعاليم المسيح لدى العيسويين بالثقافة الهلينية الرومانية الممزوجة بالأساطير. وقد جاء فى دائرة معارف الدين (المجلد الثالث ص 349):
“وكان بولس مسؤولا أيضا عن إعادة صياغة المسيحية ونقلها من طائفة يهودية إلى حركة عالمية قبيل نهاية القرن الأول. ولقد كان لهذا التحول أثره الحاسم والخطير فى تاريخ المسيحية فقد ولد عيسى فى زاوية مجهولة من الإمبراطورية الرومانية، وبعد هذا التحول أخذ أتباعه على أنفسهم مسؤولية تحدى الامبراطورية الرومانية، بل وقهرها من الداخل”. يقول الأب بولس الياس فى كتابه يسوع المسيح (ص17-18):
“لقد ترك لنا بولس الرسول عن المسيح رسما واضح القسمات وإن اختلف ظاهرا عن رسم مسيح الأناجيل، فمسيح بولس هو مسيح الإيمان أكثر منه مسيح التاريخ. ولا عجب فبولس الفيلسوف واللاهوتى لم ير المسيح فى الجسد ولا رافقه كباقى الرسل، فمسيحه هو ابن الله (روما 3:8)-غلاطية (4:4) له طبيعتان إلهية وإنسانية، تجسد واتخذ صورة عبد (فيلبى 2:7) وتحدر من ذرية إبراهيم حسب الجسد(غلاطية 3:15)، ومات مصلوبا وقبر وقام من بين الأموات (كورنثوس الأولى 1:24،27) وفيلبى15)”.