إعداد فريق التحرير
على الرغم من أنه يفترض أن المسيحية قد جاءت لتكمل الرسالات السماوية السابقة وتحارب الوثنية الشركية وتحل محلها، إلا أننا نجد أن المسيحية التثليثية المعاصرة في حلتها الحالية ومنذ مجمع نيقية الذي انعقد في عام 325 ميلادية وحتى الآن أقرب إلى الوثنية الشركية من الرسالات السماوية التوحيدية سواء السابقة وعلى رأسها اليهودية أو اللاحقة وهي رسالة الإسلام الخاتمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
موقف الرسالات السماوية المتعاقبة من التثليث
إننا لا نجد أصلا لعقيدة التثليث المعاصرة في رسالات الأنبياء السابقين ولا رسالة النبي محمد اللاحقة سواء من واقع كتب اليهود ولاسيما الكتاب المقدس اليهودي أو العبري المسمى “التناخ” أو كتاب المسلمين وهو القرآن الكريم أو حتى كتاب المسيحيين أنفسهم المسمى بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
فهذه العقيدة الفاسدة دخيلة على دين الله الحق حسبما جاء به الأنبياء في كل زمان ومكان في ضوء الكتب الحالية على الرغم مما طرأ على كتب اليهود والمسيحيين من التحريف. فلا نجد في التناخ ولا القرآن الكريم ولا الكتاب المقدس نفسه إلا دعوة واضحة وصريحة للتوحيد المحض. والأمثلة على ذلك كثيرة، بل أكثر من أن يتسع المقام لسردها.
ولكن، نقرأ عن الدعوة إلى التوحيد الخالص في التناخ على سبيل المثال لا الحصر: “اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ” (التثنية 4:6)
وعن التوحيد المحض، نقرأ في القرآن الكريم على سبيل المثال لا الحصر:
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (البقرة 163:2)
وفي العهد الجديد من الكتاب المقدس نفسه نقرأ عن الدعوة إلى التوحيد الخالص على لسان السيد المسيح نفسه على سبيل المثال لا الحصر: حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متى 10:4)
ومما سبق يتبين لنا أن عقيدة التثليث أو الثالوث المقدس المزعوم ليس لها أي سند كتابي سواء في اليهودية أو الإسلام أو المسيحية نفسها. فليس لها أصل إلا فيما يسمى بالتقليد الكنسي الأعمى الذي استمد هذا المعتقد الفاسد من مجمع نيقية وما بعده من المجامع المسكونية اللاحقة.
وبغض النظر عن السند الكتابي، تتعارض هذه العقيدة الشاذة مع أبسط مسلمات العقل والمنطق. فأقل ما يقال في هذا المقام أنه هل يعقل أن الله لم يخبر عباده من لدن آدم وحتى السيد المسيح أن له ثلاثة أقانيم منها السيد المسيح وأن هذه الأقانيم تستحق العبادة؟ وهل يعقل أن تظل البشرية جاهلة بالأقانيم الثلاثة المزعومة لحين انعقاد مجمع نيقية الأول في عام 325 ميلادية؟ وهل يعقل أن يختلف رجال الدين في المسيحية في جميع المجامع المسكونية المبكرة على ألوهية هذه الأقانيم الثلاثة؟ وهل يعقل أن الله أسقط أقنوما الابن والروح القدس من حسابات رسالة الإسلام الخاتمة التي جاء بها النبي محمد؟
وما حكم ملايين البشر الذين عاشوا وماتوا قبل بعثة السيد المسيح ولم يعرفوا أن لله ثلاثة أقانيم منها السيد المسيح نفسه وأنه كان عليهم عبادة هذه الأقانيم الثلاثة؟ وما حكم ملايين البشر الذين جاءوا بعد رسالة الإسلام الخاتمة التي جاء بها النبي محمد ليجدوا أنه ليس للأقانيم الثلاثة أصل إلا عند أتباع رسالة سماوية واحدة وهي المسيحية المعاصرة من أصل رسالات سماوية عديدة ليس في أيها ذكر لهذه الأقانيم؟
لنغُص الآن في أعماق التاريخ حتى نتعرف على الجذور التاريخية لعقيدة التثليث المزعومة التي تخلو منها الرسالات السماوية الثلاث الرئيسية بكتبها الحالية بصرف النظر عما طرأ على بعضها من التحريف.
الجذور التاريخية لعقيدة التثليث
لقد جاءت رسالة السيد المسيح عليه السلام في زمان ومكان تتجاذبهما دعوتان دينيتان رئيسيتان إحداهما سماوية توحيدية متمثلة في اليهودية التي هي عبارة عن خليط من الرسالات السماوية التي نزلت على أنبياء بني إسرائيل ولاسيما نبي الله موسى عليه السلام، والأخرى وثنية شركية متمثلة في عبادة الأوثان التي كانت تملأ الأرض في ذلك الوقت بما في ذلك الإمبراطورية الرومانية نفسها.
ولقد كان المفترض في رسالة السيد المسيح عليه السلام أن تكون امتدادا توحيديا للرسالات السماوية السابقة يخفف من وطأة المادية التي طغت على بني إسرائيل ويحارب في الوقت نفسه الوثنية الشركية التي كانت سائدة عند أهل الأرض في ذلك الحين.
ولكن، وللأسف، سرت سنة الكون في خلق الله على الأرض، فتعرضت رسالة السيد المسيح لما تعرضت له ما قبلها من الرسائل السماوية من التبديل والتغيير، ولكن في هذه المرة، لعبت عوامل عديدة دورا تحريفيا خطيرا أخرج رسالة السيد المسيح عن سياقها التوحيدي وأدخلها في زمرة الدعاوى الوثنية الشركية الباطلة.
ولقد تمثلت هذه العوامل في عامل الإعجاز الذي شاب حياة المسيح سواء عند مولده بدون أب بشري أو عند رفعه دون انتهاء أجله، وعامل المجاز الذي اعترى خطابه وأقواله وشاع في رسالته بشكل عام والذي جعل بعض أتباعه يحملون بعض المقولات على غير محملها ويضعون الأمور في غير موضعها ويخرجون الأشياء عن نصابها الصحيح، وأخيرا عامل البيئة الوثنية الشركية التي كانت سائدة إبان رسالة السيد المسيح وبعدها لوقت يكاد يكون طويلا.
ولكن، لم تأت نقطة التحول الحقيقية من المسيحية التوحيدية الأصلية إلى الوثنية التثليثية الشركية إلا عندما وفرت الإمبراطورية الرومانية بقيادة الإمبراطور قسطنطين الأول العامل الأخير وهو عامل البيئة متمثلا في المحيط الداعم للوثنية التثليثية الشركية في حربها ضد المسيحية التوحيدية الأصلية وذلك في مجمع نيقية عام 325 ميلادية.
فحتى ذلك التاريخ، كان هناك وجود قوي للمسيحية الأقرب إلى التوحيد والمؤمنين بها. ولكن، اعتبارا من ذلك التاريخ، بدأت تلك المسيحية في الانحسار، بينما بدأت المسيحية التثليثية الوثنية في الترسخ والانتشار. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى الخلفية الدينية لدى الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت.
فلقد كانت الدولة الرومانية دولة وثنية شركية لم ترتض التوحيد دينا لها في أغلب إن لم يكن كل عصورها وحقبها التاريخية. وإنما دأبت على الإيمان بالشرك وتعدد الآلهة، حيث كانت تلك العقيدة معتقدا سائدا في أغلب أرجاء الإمبراطورية الرومانية والدول والحضارات المجاورة والمعاصرة سواء في الشرق أو الغرب. بل كان ذلك معتقدا موروثا عن الإمبراطوريات والحضارات السابقة. فلقد كان أهل التوحيد وعلى رأسهم اليهود قلة قليلة في مواجهة كثرة كثيرة من أهل الوثنية والشرك متمثلين في أغلب الشعوب والحضارات والثقافات آنذاك.
وإن الاعتقاد في التثليث تحديدا دون التربيع أو التخميس أو التسديس أو غير ذلك له جذوره التاريخية العديدة عند الرومان. والأدلة التاريخية على الإيمان بالتثليث عند الرومان لا تتناهى، فهي أكثر من أن يحصيها هذا المنشور. فلا تزال المعابد التثليثية القديمة في روما العاصمة التاريخية للإمبراطورية الرومانية قائمةً شاهدةً على الانتحال العقدي والتحول الديني الذي حدث من المسيحية الأصلية إلى المسيحية التثليثية المعاصرة. ولا أدل على ذلك من معابد الكابيتوليا وغيرها من المعابد الأخرى التي أقيمت لعبادة الثواليث المقدسة، والتي منها ما هدم وحول إلى كنائس عند اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية ومنها ما يظل قائما حتى يومنا هذا مثل معبد كابيتوليوم والموجود حتى اليوم في هضبة كابيتولين في روما وكابيتوليوم بريشا وكابيتوليوم أو معبد جوبيتر في بومبي.
ولا مجال لإنكار ذلك، فلقد كان التثليث معتقدا سائدا في الدولة الرومانية لحقب تاريخية عديدة بما فيها الحقبة التاريخية التي سبقت وتزامنت مع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، ولا غرابة في ذلك، فلقد كان الاعتقاد في التثليث سائدا لدى الحضارات والثقافات المجاورة والمعاصرة بل والسابقة أيضا.
من شواهد التثليث في التاريخ الروماني
لم يؤمن الرومان بالتثليث في حقبة واحدة من تاريخهم فقط ولكن تكرر إيمانهم به في حقب تاريخية عديدة كما يلي:
الثالوث العتيق
يشار إلى أول ثالوث يؤمن به الرومان بـ”الثالوث العتيق” وكان يتكون من: 1- جوبيتر (المشترى) وهو الإله الرئيسي وملك الآلهة الرومانية وإله السماء والبرق في الأساطير الرومانية، 2- مارس (المريخ) وهو إله الحرب في الدين في روما القديمة والأساطير الرومانية وهو أيضا إله الزراعة في روما القديمة. وكان الثاني من حيث الأهمية بعد جوبيتر، 3- كويرينوس وكان في عهد أغسطس قيصر اسما للإله جانوس.
ويسبق هذا الثالوث زمن تأسيس الإمبراطورية الرومانية ولا يعرف تحديدا الزمان الذي كان يعبد فيه هذا الثالوث.
ثالوث كابيتولين
ثالوث كابيتولين كان مجموعة من ثلاثة آلهة عليا في الأساطير الرومانية والتي عبدت في معبد كابيتوليوم في هضبة كابيتولين في روما. وشمل هذا الثالوث: 1- الإله جوبيتر (المشترى) كبير الآلهة في الأساطير الرومانية، 2- الإلهة جونو أخت وزوجة جوبيتر، 3- الإلهة مينيرفا ابنة جوبيتر وإلهة العقل والحكمة
كان هذا الثالوث يعبد في معابد تسمى “كابيتوليا” في كثير من المدن سواء في إيطاليا أو خارجها لاسيما خلال عهد الإمبراطور أغسطس مؤسس الإمبراطورية الرومانية وأول إمبراطور لها والذي حكم من 27 ق.م. حتى مماته في 14 م. وكذلك خلال عهد سلالة جوليو كلاوديان الحاكمة والتي ينتمي لها أول خمسة أباطرة رومان ابتداء بالإمبراطور أغسطس وانتهاء بنيرون، والذين حكموا الإمبراطورية الرومانية منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد حتى عام 68 عندما انتحر آخرهم نيرون.
من شواهد التثليث قبل التاريخ الروماني
لم يكن التثليث من بنات أفكار الرومان، وإنما ورثوه وحاكوه نقلا عن الحضارات والثقافات السابقة. وفيما يلي أمثلة للحضارات والثقافات القديمة التي نقل عنهم الرومان إيمانهم بالتثليث:
الثالوث الأومبري
أومبريا هي إقليم إيطالي يقع في وسط البلاد وعاصمته هي بيردوجا. تنسب المنطقة لقبيلة أومبري التي استقرت في المنطقة في القرن السادس قبل الميلاد (672 قبل الميلاد تقريبا).
ووفقا للعالم الألماني جورج فيسوفا في كتابه عن دين الرومان، كان لدى قبيلة أومبري ثالوث مقدس يعبدونه في مدينة غوبيو وهذا الثالوث كان “الحب – مارت (المريخ) – فوفيونس”.
الثالوث الإتروسكاني
الحضارة الإتروسكانية هي الاسم الحديث لحضارة عاشت سنة 600-750 قبل الميلاد في إيطاليا القديمة في منطقة توسكانا الحالية تقريباً وأطلق عليهم الرومان القدماء اسم إتروسكي أو توسكي. اسمهم الروماني هو أصل تسمية توسكانا معقلهم وإتروريا كامل منطقتهم.
عبدت الحضارة الإتروسكانية في البداية ثالوث “أرتميس – مينيرفا – باشا”. وبمرور الوقت أصبح الثالوث الرئيسي الذي تعبده الحضارة الإتروسكانية “تينيا – يوني – مينيرفا” المعادل للثالوث الروماني “جوبيتر – جونو – مينيرفا” على التوالي.
الثواليث اليونانية القديمة (الإغريقية)
كانت اليونان القديمة حضارة عاشت في حقبة من التاريخ اليوناني اعتبارا من العصور اليونانية المظلمة في القرن التاسع حتى الثاني عشر قبل الميلاد حتى نهاية العصر الكلاسيكي القديم وبداية العصور الوسطى المبكرة في عام 500 بعد الميلاد تقريبا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية.
ودائما ما ينظر إلى اليونان القديمة باعتبارها الثقافة الأصيلة التي وضعت الأساس للحضارة الغربية خلال العصر الذي يعرف بالعصر الهلنستي. ولقد كان للثقافة اليونانية تأثير قوي على الإمبراطورية الرومانية، التي حملت نسخة منها إلى أجزاء كثيرة من منطقة البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. كما كان لحضارة الإغريق القديمة تأثير هائل على الدين، واللغة، والسياسة، والنظم التعليمية، والفلسفة، والعلوم، والفنون.
ولقد شاع عند الإغريق في اليونان القديمة تعدد الآلهة، وكانوا يعبدونها في شكل ثواليث كثيرة. ونقلت الحضارات المجاورة المعاصرة منها واللاحقة مثل الحضارة الرومانية عن الإغريق عقيدة التثليث بأشكال مختلفة ومسميات مختلفة.
انقر هذا الرابط للتعرف على الثواليث الكثيرة التي كان يعبدها الإغريق قبل اعتناق المسيحية.
التعليق
نلاحظ أن معتقد التثليث قد استعاره الرومان من الحضارات القديمة مع تغيير المسميات فقط. ففي البداية، عبد الرومان ثالوث “جوبيتر – مارس – كويرينوس”، ثم استبقوا جوبيتر واستبدلوا الإلهين الآخرين بأسرة جوبيتر وهي الإلهة جونو أخته وزوجته والإلهة مينيرفا ابنته، فعبدوا ثالوث “جوبيتر – جونو – مينيرفا”. ثم ظل هذا الثالوث يعبد في الإمبراطورية الرومانية حتى اعتناق الإمبراطورية الرومانية المسيحية. وحينئذ، استبدلوا اسم جوبيتر كبير الآلهة باسم الآب واستبدلوا أسرة جوبيتر وهي جونو ومينيرفا بأسرة جديدة وهي الابن والروح القدس، ليعبد الرومان ثالوث قديما جديدا مكونا كما كان من قبل من كبير آلهة وأسرته، ليصير الثالوث الجديد: “الآب – الابن – الروح القدس”.
وربما فسر ذلك سر تقديس الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي تتخذ من روما والفاتيكان تحديدا مقرا تاريخيا لها، الزائد للسيدة مريم، حيث تعتبرها شريكة في الألوهية من حيث كونها شريكة في الخلاص وغير ذلك. فلقد اعتادوا قبل اعتناق المسيحية الإيمان بكبير الآلهة وزوجته وأم أبنائه. ولذلك، يقدس الكاثوليك الرومان السيدة مريم بعد اعتناق المسيحية ويسحبون عليها بعض خصائص الألوهية بالرغم من عدم شمولها في الثالوث الجديد.
_________
المراجع:
- القرآن الكريم
- التناخ (الكتاب المقدس اليهودي أو العبري)
- الكتاب المقدس
- موقع الأنبا تكلا
- كتاب “دين الرومان” لجورج فيسوفا