في الجزء الأول، تناولنا موقف الإسلام من التجسد الإلهي. وفي هذا الجزء الثاني، سنتناول موقف المسيحية من التجسد وما ورد في الكتاب المقدس بهذا الخصوص.
الكتاب المقدس
على الرغم من إيمان المسيحيين بإمكانية تجسد الإله، يخبرنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد خلاف ذلك، حيث يحمل الكتاب المقدس في طياته ما ينفي التجسد وما يستلزمه من التحيز. فعلى سبيل المثال، في أول عدد من الكتاب المقدس نقرأ: “فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ”. (التكوين 1:1) فإذا كان الله عز وجل خالقا للسماوات والأرض فكيف يتحيز ويتجسد فيها؟
ويخبرنا الكتاب المقدس أن الله يدعو الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها. فنحن نقرأ: “إِلهُ الآلِهَةِ الرَّبُّ تَكَلَّمَ، وَدَعَا الأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا”. (مزمور 50:1) فإذا كان الله هو من يدعو الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، فكيف يتحيز ويتجسد فيها؟
ويخبرنا الكتاب المقدس باستحالة رؤية الله والتكلم إليه بدون حجاب في الدنيا، فعن ذلك نقرأ: فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ». فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى». (خروج 18:33-23)
كما نقرأ أيضا: “اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ”. (يوحنا 18:1)
ونلاحظ أن العدد السابق يذكر أن “الله” وليس “الآب” هو الذي لم يره أحد، تأكيدا لاستحالة رؤية الله في الدنيا. فحتى لو كان لله ثلاثة أقانيم، فالعدد السابق يقتضي عدم إمكانية رؤية هذه الأقانيم في الدنيا، ولكن حيث أنه أمكن رؤية بعض هذه الأقانيم، فهذا يعني أنها ليست الله ولا من الله.
ويخبرنا الكتاب المقدس بأنه لا معادل لله عز وجل ولا شبيه له، لا في السماء ولا في الأرض، حتى من بين أبناء الله المزعومين الذين يفشو ذكرهم في الكتاب المقدس. فنحن نقرأ: “وَالسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ، وَحَقَّكَ أَيْضًا فِي جَمَاعَةِ الْقِدِّيسِينَ. لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ. مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ؟” (مزمور 5:89-6)
وعلى الرغم من ذلك، وكالعادة، يختلط في الكتاب المقدس الحق بالباطل وما هو من الوحي بما ليس من الوحي. فينسب التحيز والتجسد والولد إلى الله في الكتاب المقدس كما يثبت رؤيته في الدنيا والتكلم إليه بدون حجاب.
فأما التحيز والتجسد والولد، فيخبرنا الكتاب المقدس في عهده الجديد أن أحد أقانيم الله الثلاثة وهو الروح القدس قد نزل من السماء متجسدا في شكل حمامة وأن المسيح هو ابن الله. فنحن نقرأ: فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». (متى 16:3-17)
وأما رؤية الله والتكلم إليه بلا حجاب في الدنيا، فالكتاب المقدس مليء بمثل هذه الخزعبلات. فإذا نظرنا في العهد القديم، وجدناه يذكر أن يعقوب رأى الله وتكلم إليه بعد أن تجسد في صورة إنسان، وليس ذلك فحسب ولكن يخبرنا الكتاب المقدس أن يعقوب صارع الله وانتصر عليه. فنحن نقرأ:
فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». (تكوين 32:24-30)
وأما العهد الجديد، فيخبرنا أن الآب قد تجسد في المسيح وأن من رأى المسيح فقد رأى الآب، مع أن كلا من الآب والابن حسب المعتقد المسيحي المعاصر أقنومان من أقانيم الله الذي لا يرى بنص الكتاب المقدس. فنحن نقرأ: “إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ“. (يوحنا 45:6-46)
كما نقرأ أيضا: قَالَ لَهُ يَسُوعُ:” أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي”. (يوحنا 9:14-12)
وأخيرا، تدل التناقضات السابقة الخاصة بالتحيز والتجسد في الكتاب المقدس بين ما هو حق وما هو باطل على التحريف الذي وقع فيه وما أدى إليه هذا التحريف من الجمع بين المتناقضات.
_________
المراجع:
1- الكتاب المقدس
2- موقع الأنبا تكلا
_________
اقرأ أيضا: