منذ عهد بعيد اعتمدت أناجيل العهد الجديد لدى النصارى وصارت ضمن الكتاب المقدس الذى ينبغى الإيمان بما جاء فيه وعدم معارضته، وقد أقامت النصرانية هذا المبدأ على ثوابت منها:
أولا: الإلهام للرسل وكتبة الأناجيل مما يجعل الاناجيل قطعية الثبوت.
ثانيا: فرض عصمة ناقليها أو نبوتهم.
ومن ثم رتب على هذه الأسس أن الأناجيل بكل ما فيها كلمة الله، لكن الواقع التاريخى للأناجيل يشهد بخلاف ذلك حيث سمعت صيحات من داخل الميدان النصرانى نفسه لتصحيح المسار والتفحص الموضوعى لما جاء فى الأناجيل بينما لاقت هذه الصيحات إخمادا من آخرين. وها هى بعض الأدلة التاريخية على بطلان هذه الأسس:
اختلاف المخطوطات والنسخ للعهد الجديد:
يوجد ما يقرب من أربعة وعشرين ألف مخطوط يدوى قديم من كلمة الرب تحسب زعمهم-من العهد الجديد، وأقدمها يرجع إلى ثلاثمائة وخمسين عاما بعدالميلاد، والنسخة الأصلية أو المنظورة أو المخطوط الأول لكلمة الرب لا وجود لها”.
إن النسخة الفاتيكانية المعتمدة من الأناجيل والتى ترجع إلى القرن الرابع الميلادى جاء فى مقدمة العهد الجديد للكاثوليك أن كاتبها “مجهول” وأن “النسخة بها أضرار!”
وهناك نسخ أخرى ليست من خط مؤلفيها ولا كانت فى عصره بل كتبت بعد وفاته بما لا يقل عن قرنين كالنسخة السينائية والإسكندرانية والنسخة الإفرايمية ونسخة بيزا والنسخة البازلية ونسخة لاديانوس. وقد ضاع سند هذه النسخ واعترف بهذه الحقيقة بعضهم ومنهم القسيس فرنج فى مناظرته للعلامة الهندى حينما قال: “إن سبب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة “.
هذا عن فقدان سندها ناهيك عن اختلاف المخطوطات فيما بينها وتحريفها من بين زيادة ونقصان وتأويل لمعانيها وتوجيه لها ومحو النسخ الاخرى من أناجيل أخرى؛ فلنا أن تنسائل لماذا هذه الأناجيل بعينها من بين آلالف النسخ الإنجيلية كلمة الله؟
يقول الدكتور السقار: “وكان روبرت قد أعطى لمطبعة تسفنجلى مذكرة علمية تطبع مع الكتاب المقدس، ثم منع من طبعها، ولما سئل عن السبب فى منعها قال: “إن هذه المذكرة ستفقد الشعب إيمانه بهذا الكتاب!”. ويقول الدكتور روبرت: “لن يدعى أحد أبدا أن الله هو مؤلف كل أجزاء هذا الكتاب قد أوحى إلى الكتبة هذه التحريفات”.
العنصر البشرى
والمتدبر للأناجيل يجد المصدر البشرى فى عباراتها مما يجعلنا فى حيرة أيمكن أن تكون كل هذه العبارات من كلام الإله، ومن ذلك الألفاظ ما قاله لوقا: “ويظن” و”نحو” ما حدا بالكنيسة إلى حذف مثل هذه الألفاظ فى الطبعات الإنجليزية.
يبدوا ان المسيحية قد اعتمدت الإلهامات كمصدر للوحى الإلهى لا بمعناه اللغوى وتلقى التشريعات. وغيرها وهذا يدل على تذبذب مفهوم الوحى فى المسيحية وانضباط المفهوم الإسلامى . “فالمكاشفات والإلهامات لا ينبني عليها حكم شرعي إطلاقا”. فما الضابط لتلك الإلهامات التى ألهمها الرسل المبلغين عن يسوع الذين لم تثبت نبوتهم ولا رسالتهم؟
والإلهام كما عرفه ابن الأثير رحمه الله: (أن يلقي الله في النفس أمراً يبعث العبد على الفعل أو الترك).
وقال زكريا الأنصاري رحمه الله: (الإلهام إلقاء معنى في القلب يطمئن له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه، وليس بحجة من غير معصوم) . يقول الله تبارك وتعالى:
“وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ “(42:51).
وأما الخواطر التي ترد على الإنسان، قد تكون من الإلهام الذي يلقيه الله في روع العبد ، وقد تكون من الشيطان، كما تكون من حديث النفس.
وقد فرق ابن حجر بين المنام والإلهام بقوله عمن سبقه: “إن المنام يرجع إلى قواعد مقررة ، وله تأويلات مختلفة ، ويقع لكل أحد، بخلاف الإلهام ، فإنه لا يقع إلا للخواص، ولا يرجع إلى قاعدة يميز بها بينه وبين لمة الشيطان. وتُعقّب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب، والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقا واضحا. ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الاحكام الشرعية لا تثبت بذلك.”
وعصمة أصحاب الأناجيل تنقدح بدلائل عدة منها الأخطاء الجسيمة التى وقعوا فيها فيما نقلوه عن المسيح أو حتى عن الرب-إن صح حسب زعمهم. وكذا ذهولهم عن أحداث كثيرة، ومن ذلك أن ثلاثة أناجيل ذهلت عن تسجيل معجزة تحويل الماء إلى خمر بينما يذكرها يوحنا فقط (2/ 1-11) على سبيل المثال لا الحصر!
المراجع
- هل العهد الجديد كلمة الله، د منقذ السقار
- المناظرة الكبرى بين رحمة الله الهدى والقس فندر
- فتح البارى لابن حجر
- جامع الأصول لابن الأثير
- الحدود الأنيقة
- الكتاب المقدس فى الميزان، عبدالسلام محمد
- إظهار الحق، رحمة الله الهندى