حال تلامذة المسيح بعد موته
لقد تفرق تلامذة المسيح بعد موته في الأمصار يبشرون بتعاليمه وتلاطمت بهم الأمواج بين ملك أو امبراطور ينصفهم وبين ملك ينزل بهم صنوف العذاب وألوانه وطفق من أخذ عن هؤلاء من البطارقة والأساقفة والآباء يتولون لهؤلاء الملوك والأباطرة الشؤون الدينية وتوجهها في البلاد تقاذفهم أهواءهم بين من ينحو إلى الوثنية وبين من ينحو إلى ما نحا إليه آريوس من رفض الطبية اللاهوتية للمسيح والاصرار على أنه من صنع المسيح. ولما انقسمت الآباء والأساقفة والبطاركة ومن دونهم في طبيعة المسيح هنا دب الاختلاف ووقع الصراع فيما بينهم أى عقيدة يتشبث بها أتباع المسيح واختلفت النصارى بعد موت المسيح في طبيعته اختلافا كثيرا.
ظهور المجامع لتقرير العقيدة
وهنا ظهرت المجامع بأمر من الأمراء لوضع عقيدة للمجتمعات النصرانية لا يكون عليها اختلاف حيث تقر فيها بعض الشرائع وترفض أخرى. وما أن كانت السطوة للأغلبية نكلوا بمن دونهم واستعانوا بالحكام عليهم. يقول الشيخ أبي زهرة “والمجامع في المسيحية هي كما يقول علماؤهم جماعات شورية في المسيحية، قد رسم رسلهم نظامها في حياتهم. حيث عقدوا المجمع بأورشليم بعد ترك المسيح لهم باثنتين وعشرين سنة، وقرر ذلك المجمع، كما علمت قريباً، عدم التمسك بمسألة الختان، بل زاد فقرر عدم التمسك بشرائع التوراة، وما وليها من سائر أسفار العهد القديم المقدس عندهم.
وكانت المجامع الاولى التى شكلت الدين النصرانى عشرة مجمعات نقل صاحب هداية الحيارى ابن القيم خبرها وهى على الترتيبب:
المجمع الأول: مجمع إنطاكية 324 م:
قال وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ بِطْرِيقٍ: اجْتَمَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا فِي مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ، وَنَظَرُوا فِي مَقَالَةِ بُولُسَ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ اللَّعْنَ فَلَعَنُوهُ وَلَعَنُوا مَنْ يَقُولُ قَوْلَهُ وَانْصَرَفُوا.
ثُمَّ قَامَ قَيْصَرُ آخَرُ فَكَانَتِ النَّصَارَى فِي زَمَنِهِ يُصَلُّونَ فِي الْمَطَامِيرِ وَالْبُيُوتِ فَزَعًا مِنَ الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ بَتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَظْهَرُ، خَوْفًا أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ (بَارُونُ) بَتْرَكًا، فَلَمْ يَزَلْ يُدَارِي الرُّومَ حَتَّى بَنَى بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ كَنِيسَةً.
ثُمَّ قَامَ قَيَاصِرَةٌ أُخَرُ، مِنْهُمُ اثْنَانِ تَمَلَّكَا عَلَى الرُّومِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأَثَارَا عَلَى النَّصَارَى بَلَاءً عَظِيمًا، وَعَذَابًا أَلِيمًا، وَشِدَّةً تَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ فِي الْقَتْلِ وَالْعَذَابِ وَاسْتِبَاحَةِ الْحَرِيمِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَتَلَا أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً مِنَ النَّصَارَى، وَعَذَّبُوا مَارِجِرْجِسَ.
فَاسْتَحْسَنَ الْمَلِكُ وَكُلُّ مَنْ حَضَرَ مَقَالَةَ الْبَتْرَكِ، وَشَنَّعَ عِنْدَهُمْ مَقَالَةَ آرِيُوسَ، وَدَارَتْ بَيْنَهُمَا أَيْضًا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، فَأَمَرَ قُسْطَنْطِينُ الْبَتْرَكَ أَنْ يُكَفِّرَ آرِيُوسَ وَكُلَّ مَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: بَلْ يُوَجِّهُ الْمَلِكُ بِشَخْصِ الْبَتَارِكِ وَالْأَسَاقِفَةِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا مَجْمَعٌ وَنَضَعُ فِيهِ قَضِيَّةً، وَيُكَفَّرَ آرِيُوسُ، وَنَشْرَحَ الدِّينَ، وَنُوَضِّحَهُ لِلنَّاس.
المجمع الثاني: مجمع نيقية 325 م:
فَبَعَثَ قُسْطَنْطِينُ الْمَلِكُ إِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ فَجَمَعَ الْبَتَارِكَةُ وَالْأَسَاقِفَةِ، فَاجْتَمَعَ فِي مَدِينَةِ نِيقِيَّةَ بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ أَلْفَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أُسْقُفًّا، فَكَانُوا مُخْتَلِفِي الْأَرَاءِ، مُخْتَلِفِي الْأَدْيَانِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَسِيحُ وَمَرْيَمُ إِلَهَانِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُمُ الْمَرْيَمَانِيَّةُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَسِيحُ مِنَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ شُعْلَةِ نَارٍ، تَعَلَّقَتْ مِنْ شُعْلَةِ نَارٍ، فَلَمْ تُنْقُصْ مِنَ الْأُولَى لِإِيقَادِ الثَّانِيَةِ مِنْهَا.
واختلفوا اختلافا كثيرا فَصَنَعَ الْمَلِكُ لِلثَّلَاثِمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا مَجْلِسًا عَظِيمًا، وَجَلَسَ فِي وَسَطِهِ، وَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَسَيْفَهُ، وَقَضِيبَهُ فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ سَلَّطْتُكُمُ الْيَوْمَ عَلَى الْمَمْلَكَةِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَصْنَعُوا، مِمَّا فِيهِ قِوَامُ الدِّينِ وَصَلَاحُ الْأُمَّةِ، فَبَارَكُوا عَلَى الْمَلِكِ وَقَلَّدُوهُ سَيْفَهُ، وَقَالُوا لَهُ: أَظْهِرْ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ وَذَبَّ عَنْهُ، وَوَضَعُوا لَهُ أَرْبَعِينَ كِتَابًا فِيهَا السُّنَنُ وَالشَّرَائِعُ، وَفِيهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْأَسَاقِفَةُ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمَلِكِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِصْحُ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، لِيَكُونَ بَعْدَ فِصْحِ الْيَهُودِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِصْحُ الْيَهُودِ مَعَ فَصْحِهِمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِلْأُسْقُفِّ زَوْجَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسَاقِفَةَ مُنْذُ وَقْتِ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى مَجْمَعِ الثَّلَاثِمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ كَانَ لَهُمْ نِسَاءٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَيَّرُوا وَاحِدًا أُسْقُفًّا وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ثَبَتَتْ مَعَهُ وَلَمْ تَتَنَحَّ عَنْهُ مَا خَلَا الْبَتَارِكَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نِسَاءٌ، وَلَا كَانُوا يُصَيِّرُونَ أَحَدًا لَهُ زَوْجَةٌ بَتْرَكًا.
قَالَ: وَانْصَرَفُوا مُكَرَّمِينَ مَحْظُوظِينَ، وَذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ قُسْطَنْطِينَ الْمَلِكِ، وَأَمَرَ بِثَلَاثِ سُنَنٍ: (أَحَدُهَا) : كَسْرُ الْأَصْنَامِ وَقَتْلُ مَنْ يَعْبُدُهَا.
(وَالثَّانِيَةُ) : أَمَرَ أَنْ لَا يُثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ إِلَّا أَوْلَادُ النَّصَارَى، وَيَكُونُوا هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ.
(وَالثَّالِثُ) : أَنْ يُقِيمَ النَّاسُ جُمُعَةَ الْفِصْحِ فَالْجُمُعَةُ الَّتِي بَعْدَهَا لَا يَعْمَلُونَ فِيهَا عَمَلًا وَلَا يَكُونُ فِيهَا حَرْبٌ.
المجمع الْآرِيُوسِيُّ:
ثُمَّ هَلَكَ قُسْطَنْطِينُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ وَاسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ، وَفِي أَيَّامِهِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ آرِيُوسَ وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ إِلَيْهِ فَحَسَّنُوا لَهُ دِينَهُمْ وَمَقَالَتَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثَمِائَةَ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِنِيقِيَّةَ قَدْ أَخْطَئُوا وَحَادُوا عَنِ الْحَقِّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الِابْنَ مُتَّفِقٌ مَعَ الْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ، فَأْمُرْ أَنْ لَا يُقَالَ هَذَا فَإِنَّهُ خَطَأٌ، فَعَزَمَ الْمَلِكُ عَلَى فِعْلِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أُسْقُفُّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَنْ لَا تَقْبَلَ قَوْلَ أَصْحَابِ آرِيُوسَ فَإِنَّهُمْ حَائِدُونَ عَنِ الْحَقِّ وَكُفَّارٌ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ الثَّلَاثُمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، وَلَعَنُوا كُلَّ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَقَبِلَ قَوْلَهُ.
المجمع الثالث، مجمع القسطنطينية 381 م:
وَكَانَ لَهُمْ مَجْمَعٌ ثَالِثٌ بَعْدَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً مِنَ الْمَجْمَعِ الْأَوَّلِ بِنِيقِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ الْوُزَرَاءُ وَالْقُوَّادُ إِلَى الْمَلِكِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَقَالَةَ النَّاسِ قَدْ فَسَدَتْ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ مَقَالَةُ آرِيُوسَ وَمَقْدُونْيُوسَ، فَاكْتُبْ إِلَى جَمِيعِ الْأَسَاقِفَةِ وَالْبَتَارِكَةِ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُوَضِّحُوا دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ. فَكَتَبَ الْمَلِكُ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، فَاجْتَمَعَ فِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أُسْقُفًّا، فَنَظَرُوا وَبَحَثُوا فِي مَقَالَةِ أَرِيُوسَ فَوَجَدُوهَا: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَخْلُوقٌ، وَمَصْنُوعٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ، فَقَالَ بَتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ: لَيْسَ رُوحُ الْقُدُسِ عِنْدَنَا غَيْرَ رُوحِ اللَّهِ، وَلَيْسَ رُوحُ اللَّهِ غَيْرَ حَيَاتِهِ، وَإِذَا قُلْنَا: رُوحُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قُلْنَا إِنَّ حَيَاتَهُ مَخْلُوقَةٌ، وَإِذَا قُلْنَا: حَيَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ، فَقَدْ جَعَلْنَاهُ غَيْرَ حَيٍّ، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِهِ.
فَلَعَنُوا جَمِيعُهُمْ مِنْ يَقُولُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَعَنُوا جَمَاعَةً مِنْ أَسَاقِفَتِهِمْ وَبَتَارَكَتِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَقَالَاتٍ أُخَرَ لَمْ يَرْتَضُوهَا، وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ خَالِقٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ، جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَزَادُوا فِي الْأَمَانَةِ الَّتِي وَضَعَتْهَا الثَّلَاثُمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ: وَنُؤْمِنُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الرَّبِّ الْمُحْيِي الَّذِي مِنَ الْأَبِ مُنْبَثِقٌ. الَّذِي مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَهُوَ مَسْجُودٌ لَهُ وَمُمَجَّدٌ.
وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَمَانَةِ: وَبِرُوحِ الْقُدُسِ فَقَطْ. وَبَيَّنُوا أَنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَثَلَاثَةُ وُجُوهٍ وَثَلَاثُ خَوَاصٍّ، وَأَنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَثْلِيثٍ فِي وَحْدَةٍ، وَبَيَّنُوا: أَنَّ جَسَدَ الْمَسِيحِ بِنَفْسٍ نَاطِقَةٍ عَقْلِيَّةٍ.
فَانْفَضَّ هَذَا الْجَمْعُ وَقَدْ لَعَنُوا فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَسَاقِفِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ.
المجمع الرابع:
ثُمَّ بَعْدَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً مِنْ هَذَا الْمَجْمَعِ كَانَ لَهُمْ مَجْمَعٌ رَابِعٌ عَلَىنَسْطُورِسَ، وَكَانَ رَأْيُهُ: أَنَّ مَرْيَمَ لَيْسَتْ بِوَالِدَةِ الْإِلَهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا الْإِلَهُ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مِنَ الْأَبِ، وَالْآخَرُ إِنْسَانٌ وَهُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ مَرْيَمَ.
المجمع الخامس:
مجمع أفسيس الثاني 449 م وظهور مقالة اليعقوبية
المجمع السادس:
مجمع خلقدون 451 م
المجمع السابع:
في أيام إنسطاس الملك وظهور مقالة الملكية وترك مقالة اليعاقبة.
المجمع الثامن:
مجمع القسطنطينية وتثبيت المجامع الأربعة التي حصلت بعد المجمع الخلقدوني.
المجمع التاسع:
في أيام معاوية بن أبي سفيان الخليفة المسلم.
المجمع العاشر:
لما مات الملك وولي بعده ابنه واجتمع فريق المجمع السادس.
قال ابن القيم معقبا بعد أن سرد شأن هذه المجامع المختلفة:
“ثُمَّ كَانَ لَهُمْ مَجْمَعٌ عَاشِرٌ لَمَّا مَاتَ الْمَلِكُ وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ وَاجْتَمَعَ فَرِيقُ الْمَجْمَعِ السَّادِسِ، وَزَعَمُوا أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ كَانَ عَلَى الْبَاطِلِ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أُسْقُفًّا فَثَبَّتُوا قَوْلَ الْمَجْمَعِ السَّادِسِ، وَلَعَنُوا مَنْ لَعَنَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَثَبَّتُوا قَوْلَ الْمَجَامِعِ الْخَمْسَةِ، وَلَعَنُوا مَنْ لَعَنَهُمْ وَانْصَرَفُوا، فَانْقَرَضَتْ هَذِهِ الْمَجَامِعُ وَالْحُشُودُ وَهُمْ عُلَمَاءُ النَّصَارَى وَقُدَمَاؤُهُمْ، وَنَاقِلُوا الدِّينَ إِلَى الْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِلَيْهِمْ يَسْتَنِدُ مَنْ بَعْدِهِمْ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْمَجَامِعُ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى زُهَاءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْأَسَاقِفَةِ وَالْبَتَارِكَةِ وَالرُّهْبَانِ، كُلُّهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.”
والناظر إلى تلك الحال التى أوصلها أتباع المسيح بتعاليمه يعجب لذلك ويتسائل ألا من عاقل لبيب ينظر إلى تلك الأحوال ويفيق من سباته ويرجع إلى رشده: طوائف تكفر بعضها بعضا ويلعن بعضهم بعضا؛ كذا أياد بشرية تلعب بكلمة الله بين أظهر علماء النصارى بل يجتمع كثير منهم على الضلال.، فرحم الله أمة الإسلام التى لم تختلف على كتابها ولا على ربها ولا على نبيها وعصمها ربها من الضلال إذ يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتى على ضلال”، وعصمها الله من الزلل بذاك العلم الجليل علم إسناد الحديث.
يقول ابن القيم:
“فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مَعَ قُرْبِ زَمَنِهِمْ مِنْ أَيَّامِ الْمَسِيحِ وَبَقَاءِ أَحْبَارِهِمْ فِيهِمْ، وَالدَّوْلَةُ دَوْلَتُهُمْ، وَالْكَلِمَةُ كَلِمَتُهُمْ، وَعُلَمَاؤُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوْفَرُ مَا كَانُوا، وَاحْتِفَالُهُمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَاهْتِمَامُهُمْ بِهِ كَمَا نَرَى، ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ تَائِهُونَ حَائِرُونَ بَيْنَ لَاعِنٍ وَمَلْعُونٍ، لَا يَثْبُتُ لَهُمْ قَدَمٌ، وَلَا يَتَحَصَّلُ لَهُمْ قَوْلٌ فِي مَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِمْ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَبَاحَ بِاللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِمَّنِ اتَّبَعَ سِوَاهُ، فَمَا الظَّنُّ بِحَالَةِ الْمَاضِينَ، وَنُفَايَةِ الْغَابِرِينَ وَزُبَالَة الْحَائِرِينَ وَذُرِّيَّةِ الضَّالِّينَ، وَقَدْ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَبَعُدَ الْعَهْدُ، وَصَارَ دِينُهُمْ مَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ الرُّهْبَانِ، قَوْمٌ إِذَا كَشَفْتَ عَنْهُمْ وَجَدْتَهُمْ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالْأَنْعَامِ، وَإِنْ كَانُوا فِي صُوَرِ الْأَنَامِ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى – وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا – إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ… … فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا لَمْ يَعْرِفُوا لَهُمْ إِلَهًا، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِمْ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ هَكَذَا، لَتَوَقَّفُوا عَنْهُ وَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهِ. فَوَازِنْ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ تَعْلَمْ عِلْمًا يُضَارِعُ الْمَحْسُوسَاتِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا: أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام”.
ومما يؤسف له أن الكنيسة ما زالت تتبع الأسلوب نفسه فى العصر الحاضر وهي تقرر العقيدة عن طريق المجامع الكنسية التى تجتمع سنويا لتقرير ما يمكن تقريره وإلغاء ما يمكن إلغاؤه ويتضح ذلك جليا فى القضايا المجتمعية التى تتغير لا وفقا لنص إنجيلى ولا حتى قياسا عليه، ولكن وفقا للوضع البشرى بتوجه الأهواء سواء المجتمعية أو الكنسية.
مراجع:
-محاضرات في النصرانية (تبحث في الأدوار التي مرَّت عليها عقائد النصاري وفي كتبهم ومجامعهم المقدسة وفرقهم): محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ) الناشر: دار الفكر العربي القاهرة، الطبعة: الثالثة 1381 هـ – 1966 م.
-هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)، المحقق: محمد أحمد الحاج، الناشر: دار القلم- دار الشامية، جدة – السعودية، الطبعة: الأولى، 1416هـ – 1996م.