الجهاد المسيحي في الكتاب المقدس

يحتل مفهوم الجهاد أحد المفاهيم المعاصرة الحرجة لما يكتنف هذا المفهوم من كثير من الخلط فى توجيه المراد منه فى ضوء معطيات العصر وتفسيرات غربية لهذا المفهوم. وإزاء هذا التحريف المتعمد لهذا المفهوم راح كثير من  أصحاب الديانات إما التنصل منه كلية أو توجيهه توجيها لا يتسق مع حقيقته أو المعطيات التاريخية التى صاحبته.

فنجد على سبيل المثال الجانب المسيحى يزعم أن الجهاد في المسيحية إنما هو محصور فى الجهاد الروحى وأن المسيحي ليس عليه رد أي عدوان. يقول أحدهم: “لا يوجد في المسيحية أي نوع آخر من الجهاد سوى الجهاد ضد الاثم وضد شهوات الجسد والكراهية والبغض والحقد والحسد والزنى والذم في الآخرين والقتل والاضطهاد. إنه الجهاد الذي يصل بالإنسان إلى حياة الالتصاق بالله والحب والنقاء والصفاء والسلام الكامل الداخلي مع الله والناس.” ويستدلون على ذلك بأدلة كثيرة منها:

قول المسيح (لوقا 13: 24):

“ابْذِلُوا الْجَهْدَ لِلدُّخُولِ مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَسْعَوْنَ إِلَى الدُّخُولِ، فَلاَ يَتَمَكَّنُونَ”

وقوله: في إنجيل يوحنا (18: 35-36):

“فَقَالَ بِيلاَطُسُ: “وَهَلْ أَنَا يَهُودِيٌّ؟ إِنَّ أُمَّتَكَ وَرُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ سَلَّمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟” أَجَابَ يَسُوعُ: “لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ حُرَّاسِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. أَمَّا الآنَ فَمَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هُنَا”.

رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس (6: 12):

الجهاد المسيحي في الكتاب المقدس

” لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً” (متى، 34:10)

“أَحْسِنِ الْجِهَادَ فِي مَعْرَكَةِ الإِيمَانِ الْجَمِيلَةِ. تَمَسَّكْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، الَّتِي إِلَيْهَا قَدْ دُعِيتَ، وَقَدِ اعْتَرَفْتَ الاعْتِرَافَ الْحَسَنَ (بِالإِيمَانِ) أَمَامَ شُهُودٍ كَثِيرِينَ”.

ورسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس (4: 7):

“قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، قَدْ بَلَغْتُ نِهَايَةَ الشَّوْطِ، قَدْ حَافَظْتُ عَلَى الإِيمَانِ”.

وفي رسالة بطرس الثانية (3: 14)

“فَبَيْنَمَا تَنْتَظِرُونَ إِتْمَامَ هَذَا الْوَعْدِ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، اجْتَهِدُوا أَنْ يَجِدَكُمُ الرَّبُّ فِي سَلاَمٍ، خَالِينَ مِنَ الدَّنَسِ وَالْعَيْبِ”.

الجهاد المسيحي 

لكننا وجدنا التفسير الكنسي للجهاد المسيحى قد ترجم فى الحملات الصليبية على ديار المسلمين فى شكل جهاد وحرب بدنية ومعنوية بكل ما تعنيه الكلمة بل وتعدى هذا الجهاد المسيحى ليغير مفهوم الجهاد المقصور على الجهاد الروحى المزعوم إلى العدوان على ديار المسلمين ومقدساتهم بل وحرقهم والعدوان على المسيحيين أنفسهم فى بيت المقدس. وكان يحمل لواء هذا الجهاد المسيحى البابوات والرهبان وكانت الحرب باسم الرب.

ولما ووجه كثير من مفكرى المسيحية بهذه الحقيقة المذهلة راح كثير منهم التنصل من أبناء جلدتهم الأوربيين، ويقولون أنهم مسيحيون انحرفوا عن الجادة، فسروا هذا الجهاد المسيحى حسب أهوائهم، علما بأننا نقطع أن ما أجمعت عليه الكنيسة –ككثير من التشريعات الكنسية- يعتبر لدى كثير من المسيحيين تشريعا مقدسا لا ينبغي مخالفته، فلم تبرأ أتباع الكنيسة من هذا التشريع الكنسى فى الحرب المقدسة باسم الرب، حتى ولو صارت الأرض كلها سيلا جرارا من الدماء؟

أليس هؤلاء الآباء والرهبان كانوا يتكلمون باسم الرب وباركوها باسم الرب؟ أم أنهم أخطئوا فى مباركتهم باسم الرب فيدفعنا هذا إلى التشكك فى كثير من تشريعاتهم اللاحقة سيما أنهم أخطأوا حال اتفاقهم دولا وآباء ورهبانا وأتباعًا فى حملتهم الصليبية المقدسة على ديار المسلمين؟!

إننا نجد فى المسيحية الشىء وضده عن المسيح فى الكتاب المقدس، فها هو يأمر أتباعه بحمل السيف قائلا:

“35 ثم قال لهم حين ارسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا احذية هل اعوزكم شيء. فقالوا لا. 36 فقال لهم لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا. 37 لاني اقول لكم انه ينبغي ان يتم فيّ ايضا هذا المكتوب وأحصي مع اثمة. لان ما هو من جهتي له انقضاء. 38 فقالوا يا رب هوذا هنا سيفان. فقال لهم يكفي”(لوقا 22: 35-38)

“لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً ، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه ، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته ” (متى، 34:10)

“25فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ. 26لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. 27أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي». ” [لوقا 19: 12-27].

ولكن الدراما التحريفية فى الكتاب المقدس لم تسلم ذلك النص فنرى النقيض من ذلك بعدها بلحظات يستوقف المسيح صاحبه الذى ضرب رئيس الكهنة بسيفة ويداوى أذنه التى جرحت :

“49فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا يا رب انضرب بالسيف. 50وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه اليمنى. 51فاجاب يسوع وقال دعوا الى هذا. ولمس اذنه وابرأها”.(لوقا 22: 49-51)

فلم يأمر المسيح أولا بحمل السيف فى وجه اليهود ثم يغمده ثانيا؟! أليس هذا من التناقض؟!

إن الحقيقة الغائبة عن كثير من الأذهان أن الآباء قد أدخلوا فى الإنجيل الشىء ونقيضه، فمتى أرادوا شن الحرب الإلهية أخرجوا تلك النصوص القاضية بذلك، وفى فترات الضعف أخرجوا تلك النصوص القاضية بالجهاد الروحى وأولوا الأخرى على ما يعنيه الجهاد الروحى!! كل ذلك لتذبذب هذا المفهوم فى المسيحية.

إن الجهاد  وإن لم يوجد فى الكتاب المقدس بلفظته الصريحة فى مقام مقاتلة الأعداء لكنه موجود بمفهومه العملى فيه، من الكفاح ضد الوثنيين وأعداء الرب، وقد ترجم هذا فى حروب داود وغيره من أنبياء الكتاب المقدس.

وسكوت المسيح عن الأمر به ليس لإبطاله ولكنه كان يتابع شرع موسى والتوراة من قبله، وفى إقراره يقول القرآن:

“وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ “.(46:5)

وعدم عمل المسيح به لا يعنى إبطاله أيضا لأن المسيح لم يكن يرمي إلى إنشاء دولة بمعنى الكلمة، ولكن كان يقصد إلى إصلاح بنى إسرائيل بعد أن انحرفوا عن تعاليم التوراة، فجاءهم بتعاليم روحية وعظا لهم وتذكيرا لهم بذلك الشرع الذى انتكسوا عنه بما فيه مجاهدة الأعداء وعدم الركون إليهم والزلل معهم، فما كان من اليهود إلا أن ازدادوا فى غيهم وضلالهم. ويدل دلالة قاطعة على ذلك عدم حذف ناقلى الكتاب المقدس تلك الحروب والمجاهدات العملية الموجودة فى العهد القديم. (انظر مزمور 46). (1صموئيل 17) (إشعياء 6) (وانظر أخبار الأيام الثاني) (سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث) (صموئيل الأول الإصحاح الرابع).( المزامير المزمور الثامن عشر).

ولا نعدم الإقرار الفعلى للمسيح لهذا الجهاد بقوله “إنما بعثت لأكمل لا لأنقض الناموس.” وقد سجل القرآن متابعة المسيح لبعض تشريعات التوراة وتخفيفه منها:

“وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ” (50:3)

إن ما دفع المسيحيون إلى التنصل من هذا التشريع الربانى المتمثل فى الجهاد هو التحريف الذى نال هذا المفهوم فى المسيحية وغيره من مفاهيم، مما دفعهم إلى تكفير غير المسيحيين جميعا، فى حين أن الإنجيل فى أصله غير المحرف إنما هو قاض بظهور رسالة اخرى مصدقة لرسالة المسيح عليه السلام: “ياتى من بعدى اسمه أحمد.”

الجهاد في الإسلام

أما الجهاد فى الإسلام ما هو إلا وسيلة لنصرة المستضعفين ولا يتم ذلك الجهاد إلا بمجاهدة النفس والشيطان والأهواء أولا.

وقد لمست تلك البلدان التى فتحها المسلمون مدى سماحة أتباع هذا الدين معهم، فلقد تبين لهم أنهم ما فتحوا تلك البلدان إلا لإيصال رسالة السماء، فكفلوا لهم حقوقهم وأعطوهم الامان فعاشوا فى بين المسلمين فى أمن وأمان وتمتعوا بحقوق لم ينالوها تحت الدولة الرومانية التى دانت بدينهم. وها هو القرآن يرسى قواعد السلم والحرب حيث يقول:

“وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ”. (191:2).

“وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (61:8)

فالجهاد فى الإسلام له ضوابط كثيرة وقد راعى حقوق الإنسان فقد كان النبى: ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمّرَ أميراً على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيراً، ثم قال:

“اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً.. ” .

ويقول: 

“ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة”.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

“من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما.

وهذا أبو بكر رضي الله عنه الخليفة الأول بعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يسير على الخطا نفسه عندما أوصى جيش أسامة فقال:

“يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها”.


المراجع

-القرآن الكريم.

biblehub.com

www.coptstoday.com

روابط شقيقة

مواضيع ذات صلة