لا شك أن الإسلام دين الوسطية والسماحة والسلام وقد شهدت أحداث التاريخ ما ضربه الفاتحون السلمون للأقطار غير الإسلامية وسماحتهم فى تعاملاتهم معهم، ولا ادل على ذلك من أننا نجد أقطارا إسلامية لم ترق على أرضها قطرة دم حين فتحت، بل صار أهلها بعد إسلامهم من أعلام هذا الدين ينافحون عنهم لما رأوا ما فيه من سماحة ويسر.
ولكن فى ظل صراع الحضارات وتدافعها نجد من يهوش ويلبس الأمر فى تلك الحقائق حتى يشوه صورة هذا الدين وينقص من قدره. ومما يلبس به أعداء الإسلام زعم ان الإسلام ضرب الجزية على أهل الكتاب حتى يثقلوهم ويضطهدوهم.
ونلمس الخلط الواضح من جهة الفهم الخاطىء لهذا المفهوم فى الإسلام وفهمه فى سياق التاريخ الأسود لقهر الرومان للمسيحيين المستضعفين فى جباية الجزية أو العشور.
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، التى ضربت الجزية على رؤوس الأمم المغلوبة فى الحروب، يقول الدكتور منقذ السقار:
“وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان:
“ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار ” (متى 17/24-25).
ويروى الكتاب المقدس عن والأنبياء أنهم أخذوا الجزية كما جاء عن يوشع مع الكنعانيين:
“فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية” (يشوع 16/10)،
فجمع لهم بين العبودية والجزية. والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح-وفقا للكتاب المقدس- أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان:
“اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك” (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها
“فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة. قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه” (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9) ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول:
“لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة… إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام” (رومية 13/1-7)”.
والحضارة الرومانية التى تتشدق بها أوربا ضربت أسوأ المثل فى مفهوم الجزية وخلطها بالضرائب الجائرة على الشعوب المستضعفة. فينقل بعض المرخين أنه (كان يقضي على الشعب الشامي أن يؤدي الجزية وعشر غلاته وأتاوة من المال ورسماً على كل رأس، وللشعب الروماني موارد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات المتعهدين يسمونهم العشارين، يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج، وفي كل ولاية عدة شركات من العشارين، ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة، ويتناولون أكثر مما يجب لهم أخذه، ويسلبون نعمة الأهلين، وكثيراً ما يبيعونهم كما يباع الرقيق”(خطط الشام للأستاذ كرد علي ج5 ص 47.)
إن الإسلام فى نظرته إلى هذا المفهوم لا يكل البشرية إلى ممارسات شنيعة انبثقت من أهواء ضالة ولكنه يقرره وفقا لقواعد الرحمة والإحسان مع الحفاظ على سيادة دولة الإسلام وفرض هيبتها فهو أولا يحدد هوية من تؤخذ منهم الجزية فليس كل من وقع فى أيدى المسلمين من الأعداء تفرض عليه الجزية فالجزية حكم عام له استثناءات. والجزية إنما هي صورة لفرض سيادة دولة الإسلام ولا يلجأ إليها إلا بعد عرض الإسلام.
ولما وقع اختلاف في منج الدعوة في فتح سمرقند، حيث لم يخير القائد المسلم أهل سمرقند بين الصلح – يشرطه – وبين القتال، ودهم ديارهم تقدم أهل سمرقند إلى عمر بن عبد العزيز بشكوى مما حدث لهم من الفاتحين المسلمين. فأمر عمر بن عبد العزيز بتنصيب قاضي من المسلمين لينظر في شكوى القوم، فقضى بما يأتي: أولاً: خروج المسلمين من سمرقند. ثانياً: تعويض لأهل سمرقند مقابل ما نزل بهم من أضرار من جراء دخول المسلمين بلادهم دخولاً مخالفاً لمنهج الدعوة.ثالثاً: ثم تعاد دعوتهم إلى الإسلام فإن أبَوْا خُيَّروا بين الصلح وبين القتال. ولكن أهل سمرقند تنازلوا عن شكواهم بعد ما لمسوا من الروح الطيبة. (سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله والعلاقات الإنسانية منهاجا … وسيرة، عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة ص 158)، يقول الدكتور منقذ السقار:
“وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”، قال القرطبي: “قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين… وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني” ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية. فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ:
(بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))،،
والمعافري: الثياب.وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.، وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)، أي ناهز الاحتلام. وقد اقترح والي مصر على الخليفة عمر بن عبد العزيز ألا يعفي الذين يدخلون الإسلام من الجزية، ولكن الخليفة الورع أبي أن يجيب هذا الوالي إلى طلبه قائلا: “إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا، ولم يبعثه جابيا”.
وقد حذر الاسلام من ظلم المعاهدين يقول الدكتور منقذ السقار:
“يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله، في حديث آخر بقوله :
(( البر حسن الخلق )).ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) ، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )).
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً،
فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا ،
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: وهم صاغرون ، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة. وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: “أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً”، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: “فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا”.
مراجع
-الجزية فى الإسلام للدكتور منقذ السقار.
-خطط الشام للأستاذ كرد علي.
-سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله والعلاقات الإنسانية منهاجا وسيرة، عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني.