يدعي أكثر المسيحيين أن سيدنا عيسى بن مريم أو يسوع المسيح عليه السلام هو المعصوم الوحيد الذي بلا خطيئة ولا ذنب، أما سائر الأنبياء والمرسلين، فليسوا بمعصومين بل جاز في حقهم الذنب والإثم. وكثيرا ما يستدل هؤلاء بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية الشريفة وأعداد من الكتاب المقدس لتعضيد ما يذهبون إليه من عدم عصمة الأنبياء بما فيهم النبي محمد وعصمة يسوع المسيح وحده.
فعلى عصمة يسوع المسيح، يستدل هؤلاء بالآية القرآنية التالية التي تنقل مناجاة أم السيدة مريم لله عز وجل قبل مولدها واستجابة الله تعالى لها:
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا (آل عمران 3 :36-37)
كما يستدلون بالحديث التالي: عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (رواه البخاري)
كما يستدلون بما ورد في حديث الشفاعة من رد السيد المسيح على الناس لدى طلبهم تشفعه لهم عند الله يوم القيامة حيث قال: “إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنبا- نفسي نفسي نفسي”، ومحل الاستدلال هو أن بعض الأنبياء الذين يطلب الناس منهم الشفاعة مثل آدم وإبراهيم وموسى قد اعتذروا إليهم بارتكابهم بعض الذنوب، أما المسيح فلم يذكر ارتكابه لذنب ارتكبه.
ومن أعداد الكتاب المقدس، يستدل هؤلاء بأعداد مثل العدد التالي: “لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ”. (العبرانيين 15:4)
وعلى عدم عصمة النبي محمد، يستدل هؤلاء بآيات مثل قوله تعالى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت 41:36)
فيستدل هؤلاء بالآية السابقة على نزغ الشيطان للنبي محمد كغيره من الناس.
كما يستدل هؤلاء على عدم عصمة النبي محمد بآيات تثبت الذنب للنبي محمد كغيره من الناس. فعلى سبيل المثال، يستدلون بقوله تعالى:
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (غافر 55:40)
ولنا أن نسأل: هل كان السيد المسيح هو المعصوم الوحيد فعلا وهل النبي محمد غير معصوم حقا؟
والحق والحقيقة أن كل ابن آدم خطاء حتى الأنبياء والمرسلون بما فيهم عيسى أو يسوع ومحمد، إلا أنهم يستحيل عليهم الكبائر والفواحش والموبقات. والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية والكتاب المقدس لا تتناهى.
فأما عيسى المسيح، فهو معصوم من كبائر الذنوب فقط وليس من صغائرها، والدليل على ذلك آيات من القرآن الكريم مثل قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الحج 52:22)
ففي الآية السابقة دليل على أن جميع أنبياء الله ورسله بما فيهم عيسى المسيح عليه السلام كانوا عرضة لعمل الشيطان.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” (رواه الترمذي وابن ماجه)
فعيسى المسيح من أبناء آدم وكان عرضة للخطأ شأنه شأن جميع البشر.
وإن ما استدل به من ذهبوا إلى عصمة السيد المسيح وحده وعدم عصمة غيره بمن فيهم النبي محمد مؤول ومردود عليه. فإن ما ورد في الآيتين رقم 36 و37 من سورة آل عمران من استعاذة أم السيدة مريم لها ولذريتها من الشيطان وتقبل الله لهذه الاستعاذة لا يعني عصمة مريم وابنها من عمل الشيطان تماما وإنما يعني عصمتهما من اتباع الشيطان اتباعا كاملا مع بقاء تعرضهما لعمله ووسوسته كسائر البشر.
والدليل على ذلك تعرض السيد المسيح لما يسمى بـ”التجارب الثلاث” الوارد ذكرها في الكتاب المقدس على يد الشيطان (متى 1:4-11)، أي أن السيد المسيح لم يسلم من عمل الشيطان شأنه شأن غيره من الناس.
ومن ذلك قوله تعالى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت 41:36)
فقد أمر الله تعالى النبي محمد بالاستعاذة من الشيطان كلما نزغه منه نزغا، وهذا يعني أن مجرد الاستعاذة من الشيطان لا تعصم الإنسان من تكرر عمل الشيطان وإنما تعصمه من اتباعه اتباعا كاملا والوقوع التام في أشراكه.
ومما يدل على عدم عصمة السيدة مريم صدور ما يمكن أن يعد ذنبا عنها، فقد صدر عنها ما يشبه اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، حيث يقول الله تعالى:
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (مريم 23:19)
وإن ما ورد من عدم مس الشيطان للسيدة مريم العذراء وابنها المسيح، فهو مقصور على المس الذي يحدث عند الولادة أما بخلاف ذلك من الأوقات في حياة السيدة مريم وابنها فهو عرضة لعمل الشيطان شأنهما في ذلك شأن سائر البشر.
وإن ما ورد في حديث الشفاعة من عدم ذكر السيد المسيح لذنب ارتكبه، فمعناه أن السيد المسيح لن يعتذر في ذلك المقام عن الشفاعة لذنب كبير قد ارتكبه كبعض الأنبياء وإنما اكتفى بالاعتذار غير المسبب، ولا يعني ذلك أن السيد المسيح لم يرتكب ذنبا في حياته. ففي نفس الحديث، لم يذكر نوح ذنبا ارتكبه أيضا، فهل يعني ذلك أن نوح بلا ذنب؟
وما ورد في سفر العبرانيين من أن السيد المسيح بلا خطية مردود عليه وذلك على لسان السيد المسيح نفسه. فقد نفى المسيح الصلاح عن نفسه وعن كل من هو سوى الله عز وجل، ولم يثبت الصلاح إلا لله عز وجل وحده، فنحن نقرأ في العهد الجديد: وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. (متى 19 :16-17)
والسؤال الآن هو: لو كان المسيح معصوما عصمة كاملة من الخطيئة فعلا وإذا أمكن أن يكون هناك إنسان معصوم عصمة كاملة أصلا، فلماذا نفى الصلاح عن نفسه وعن غيره ولم يثبته إلا لله عز وجل؟
إن الأعداد السابقة من العهد الجديد لا تحتمل إلا معنى واحدا فقط وهو أنه ليس هناك من البشر من يستحق وصف الصلاح المطلق لأن كل ابن آدم خطاء بمن فيهم يسوع المسيح نفسه.
ولقد ورد في الكتاب المقدس ما يمكن أن يعد ذنبا ارتكبه السيد المسيح. فعلى سبيل المثال، نجد أن تعامل السيد المسيح مع أمه حسبما يصوره الكتاب المقدس تعاملا مجردا عن البر الذي أوصى به الله تعالى آحاد عباده، ناهيك عن أنبيائه ورسله. فنحن نقرأ على سبيل المثال: وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتي؟» ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي». (متى 46:12-50)
كما نلاحظ أيضا في الكتاب المقدس علاوة على سوء معاملة السيد المسيح لأمه أن الخمر كانت تشرب بحضرته وكان يشربها حواريوه وأتباعه، فنحن نقرأ: وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». (يوحنا 2 :3-4)
وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم من كبائر الذنوب فقط وليس من صغائرها، شأنه في ذلك شأن يسوع المسيح وغيرهما من أنبياء الله تعالى ورسله. وما ورد من نسبة الذنب إلى النبي محمد ونزغ الشيطان له، فهو محمول على صغائر الذنوب وسيئات المقربين، بمعنى أنها ليست سيئات كسيئاتنا ولكنها أعمال ربما إن صدرت من آحاد الناس لا تكون ذنوبا وإنما لا تليق بمقام النبوة والرسالة، فهي خلاف الأولى والأرجح والأليق بمقام النبوة والرسالة.
وربما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أقل الناس ذنبا وذلك لما ورد من إعانة الله له على قرينه من الجن وتمكينه منه وإسلامه على يديه، على خلاف سائر البشر حتى الأنبياء والمرسلين. فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير. (رواه مسلم)
وخلاصة القول أن عيسى ابن مريم عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم نبيان ورسولان من أولي العزم من الرسل، فهما من خير الرسل، وهما في الإسلام معصومان من كبائر الذنوب، لا فرق بينهما ولا بين غيرهما من الأنبياء والمرسلين في ذلك، وربما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أقل الناس ذنبا وفقا لما ورد من الأدلة الشرعية في ذلك.
_________
المراجع:
1- القرآن الكريم
2- صحيح البخاري
3- صحيح مسلم
4- تفسير البغوي
5- تفسير الشيخ الشعراوي
6- الكتاب المقدس
اقرأ أيضا: