اليهودية والمسيحية والإسلام: أصول أسمائها ورسالاتها

الصليب…ما قصته؟

لمحة تاريخية

لا شك أن الصليب قد صار علامة، وأيقونة بارزة للتعبير عن المسيحية. وبسؤال أهل الشأن المسيحيين عن قصته، عهدنا منهم رواية شهيرة ما حاصلها– كما يرويها الخور اسقف فيليكس الشابي- أن بعض اليهود المتعصبين قام بردم قبر المخلص، ودفن الصليب المقدس، وصليبي اللصين الاخرين اللذين كانا معه، لإخفاء معالم صليب يسوع. فاختفى اثر الصليب مذ ذاك ولمدة تناهز ثلاثة قرون من الزمان.

وفي مطلع القرن الرابع الميلادي، أراد قسطنطين الكبير (ابن الامبراطور قسطنطينوس الاول) أن يأخذ روما، ويصبح امبراطور الغرب، فشن سنة 312 معركة ضد عدوه ماكسينـتيوس Maxentius على مشارف المدينة بالقرب من نهر التايبر.

وكانت أم قسطنطين الملكة هيلانة مسيحية فأثرت عليه، فجعل راية الصليب تخفق على كل راية، وعَلَم، وخاض المعركة وانتصر على عدوه.

بعدها نذرت أمه القديسة هيلانة أن تذهب الى اورشليم لنوال بركة الاراضي المقدسة، بالقرب من جبل الجلجلة. فأمرت بتنقيب المكان، وتم العثور على ثلاث صلبان خشبية.

 ولما لم يستطيعوا تمييز صليب الرب، اقترح القديس كيرلس بطريرك اورشليم أن يختبروا فاعلية الصليب، ولأجل ذلك احضروا ميتاً، ووضوعوا عليه أحد الصلبان فلم يحدث شيء، وضعوا الثاني ولم يحدث شيء ايضا، وعندما وضعوا الصليب الاخير قام الميت ومجد اللـه، وبذلك توصلوا الى معرفة الصليب الحقيقي للسيد المسيح.

  ولما اغتصب الفرس الصليب، وبقي الصليب في بلاد فارس حوالي 14 سنة، انتصر هرقل الملك اليوناني عليهم، وتمكن من استرداد ذخيرة عود الصليب أيضا، وكان ذلك سنة 628. فأتى إلى القسطنطينية التي خرجت بكل ما فيها الى استقباله.

ومنذ ذلك الحين بقي الصليب في اورشليم. ثم صار الملوك والامراء والمؤمنين المسيحيين بعد ذلك يطلبون قطعاً من الصليب للاحتفاظ بها كبركة لهم، ولبيوتهم وممالكهم.

تساؤلات

وهذه القصة يشوبها تناقض كبير؛ لأنها تثير في أذهاننا عدة تساؤلات، وإجاباتها من الجانب المسيحى تصادم المعقول والمنطق منها:

هل بقيت هذه الصلبان الخشبية بحالتها إلى أن التقطت بعد ميلاد المسيح  بثلاثمائة وثمان وعشرين سنة، ولم تبل؟

 وثمت سؤال آخر: إذا كان الصليب قد شفى ذلك الرجل الذي وضع عليه اختبارا لفاعليته، ونسبته للمسيح بعد قرون من موته، أما كان أحرى به أن ينقذ المسيح مما كان فيه وهو عليه؟

“وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿١٥٧﴾ بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” (القرآن الكريم،157:4-158)

ومما قد يسأل أيضا: من كان يدير أمر السماوات والأرض، ويقوم على شئون الخلق لما كان الإله-المسيح-على الصليب؟

كيف يتم تعظيم شىء لم يباركه المسيح عليه السلام، ولم يقره؟

أما كان أولى بهؤلاء السفهاء ألا يمجدوا الصليب، بل يزدروه؛ لأنه شىء كرهه المسيح، وعانى منه-على حسب زعمهم في صلبه-؟!

إن الاعتقاد بصلب المسيح-عليه السلام-يعد ضربة قاضية لألوهية المسيح أو ربوبيته، ويأتى على بنيان هذا الاعتقاد من القواعد؛ لأننا لنا أن نسأل  هل صلب الناسوت (الجسد) أم اللاهوت (صفة الألوهية)؟

 فإن كان الذي صلب هو الناسوت، فنخلص إلى أن المسيح لم يكن بإله حال حياته، ولا بعد مماته؛ لأن اللاهوتية مفارقة له تنفك عنه بأدنى فعل -سيما من العباد- بصلبهم إياه.

 وإن كان الذي صلب اللاهوت (صفة الألوهية)، فنخلص إلى أن إلوهية المسيح قد ماتت بموته!

ورحم الله الإمام ابن القيم إذ لخص كثيرا من تلك التناقضات التى أوقع فيها المسيحيون أنفسهم بالاعتقاد في صلب المسيح. يقول في رائعته الشعرية  “أعباد المسيح”:

أَعُبّاد المسيح لنا سؤالٌ *** نريدُ جوابه ممّن وّعاهُ

إذا مات الإله بصنع قومٍ, *** أماتوه فما هذا الإله؟

وهل أرضاه ما نالوه منه؟ *** فبشراهم إذا نالوا رضاهُ

وإن سخط الذي فعلوه فيه *** فقّوتهم إذا أوهت قواه

وهل بقي الوجود بلا إله *** سميع يستجيب لمن دعاه؟

وهل خلت الطباق السبع لما *** ثوى تحت التراب وقد علاه؟

وهل خلت العوالم من إلهٍ *** يدبرها وقد سمرت يداه؟

وكيف تخلت الأملاك عنه *** بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟

وكيف أطاقت الخشبات حمل *** الإله الحق شد على قفاهُ

وكيف دنا الحديد إليه حتى *** يخالطه ويلحقه أذاه؟

وكيف تمكنت أيدي عداه *** وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟

وهل عاد المسيح إلى حياة *** أم المحيي له رب سواه

ويا عجباً لقبر ضم ربا *** وأعجب منه بطن قد حواهُ

أقام هناك تسعاً من شهورٍ, *** لدى الظلمات من حيض غذاه

وشق الفرج مولوداً صغيراً *** ضعيفاً فاتحاً للثدي فاهُ

ويأكل ثم يشرب ثم يأتي *** بلازم ذاك هل هذا إلهُ؟

تعالى الله عن إفك النصارى *** سيسأل كلهم عما افتراه

أعباد الصليب بأيّ معنىً *** يُعظّم، أو يقبح من رماهُ

وهل تقضي العقول بغير كسر *** وإحراق له ولمن بغاه

إذا ركب الإله!! عليه كرهاً *** وقد شدت بتسمير يداه

فذاك المركب الملعون حقاً *** فدسه لا تبسه إذ تراه

يهان عليه رب الخلق طراً *** وتعبده؟ فإنك من عداه

فإن عظمته من أجل أن قد *** حوى رب العباد وقد علاه

فهلا للقبور سجدت طراً *** لضم القبر ربك في حشاه؟

فيا عبد المسيح أفق فهذا*** بدايته وهذا منتهاه

لذلك تدفع مثل هذه التساؤلات هذا الإمام العلم إلى الخلاصة التى خلص إليها وهي أنه: “لو أن قوماً لم يعرفوا لهم الها ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله.”

فهل من عاقل من القوم ينظر بنظر البصيرة إلى تلك الأسئلة، ويرجع إلى صوابه ويرعوي عن غيه!

تحقيق: هل صلب المسيح

كل تلك الأسئلة التى لا تجد إجابات مقنعة تدل دلالة صريحة على أن قضية صلب المسيح إنما هي بدعة فرضت على أتباع المسيح فرضا، ولم تكن عن رضا من الحواريين.

وهذه هي الحقيقة التى أشار إليها القرآن بقوله:

“وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ  وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿١٥٧﴾ بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿١٥٨﴾ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿١٥٩﴾”. (4-159:157)

وقد قرر أيضا أن المسيح لم يصلب، وإنما قد ألقي شبهه على أحد أتباعه فصلبه اليهود ظنا منهم أنه هو.

 فالمسيح-وفقا للوجهة الإسلامية الصحيحة، التى لا مناص منها –لم يصلب وإنما رفع حيا إلى السموات العلى ليس عن يمين أبيه كما يزعم المسيحيون؛ لأن الله ليس للمسيح بأب، ولكنه إلهه، وربه الذي خلقه، والذي لا يملك لنفسه بدونه نفعا، ولا ضرا، ولا حياة، ولا نشورا.

كذا يقرر القرآن أن المسيح ما كان إلا عبدا لله، ونبيا، ولم يكن إلها قط:

“يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا ﴿١٧١﴾ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّـهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿١٧٢)” (4-172:171).

“لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ”. (72:5)

وينفي القرآن بنوة المسيح لله بحال:

“وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّـهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّـهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30:9)”.

وهذا أيضا ما تؤكده روايات الإنجيل بتناقضها في وصف ما بعد الحدث، إذ أقنع المسيح حوارييه-وفقا لإنجيل لوقا- بعد أن ارتعبوا من رؤيته بعد إشاعة صلبه، وظنهم أنه روح -بأنه لم يصلب فيقول لهم:

“انظروا إلى يدي ورجلي إني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام” (لوقا: 39:24)

فتركه الجميع وهربوا (مرقس، 50:14)


مراجع

  • القرآن الكريم
  • الكتاب المقدس
  • ابن القيم هداية الحيارى
  • ابن القيم، إغاثة اللهفان
  • ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
  • موقع مسيحي دوت كوم

روابط شقيقة

مواضيع ذات صلة