اليهودية والمسيحية والإسلام: أصول أسمائها ورسالاتها

الديمقراطية بين الإسلام والمسيحية (2/1)

الديمقراطية في المسيحية

اتسمت المسيحية من واقع الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث بعزوفها عن السياسة عزوفا كاملا

يعد مفهوم الديمقراطية من أكثر المفاهيم السياسية أهمية في العصر الحديث، فلقد أصبح العالم اليوم وخصوصا الغرب ينظر إليها على أنها النظام السياسي الأمثل، وأضحى جميع أصحاب الديانات والمعتقدات والمنظومات الروحية والاجتماعية يتبارون في ادعاء تبني معتقداتهم للديمقراطية والعمل بها واعتمادها نظاما سياسا واجتماعيا وحياتيا، وصار اعتماد الديمقراطية نظاما سياسيا مدعاة للفخر وادعاء الحداثة والتحضر، بينما جعل عدم اعتماد الديمقراطية الشعوب والمجتمعات أكثر عرضة للوصم بالتخلف والرجعية. تعالوا لنتعرف على موقف المسيحية والإسلام من الديمقراطية كنظام سياسي.

تعريف الديمقراطية

يعرف موقع ويكيبيديا (الموسوعة الحرة) الديمقراطية بأنها: “شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة – إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين – في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين”.

ووفقا لنفس الموقع، فإن مصطلح “ديمقراطية” مشتق من المصطلح الإغريقي δημοκρατία (باللاتينية: dēmokratía) ويعني “حكم الشعب” لنفسه، وهو مصطلح قد تمت صياغته من شقين δῆμος (ديموس) “الشعب” وκράτος (كراتوس) “السلطة” أو “الحكم” في القرن الخامس قبل الميلاد للدلالة على النظم السياسية الموجودة آنذاك في ولايات المدن اليونانية، وخاصة أثينا.

الديمقراطية في المسيحية

اتسمت المسيحية من واقع الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث بعزوفها عن السياسة عزوفا كاملا وابتعادها عن الحياة الدنيوية، وتركيزها على الجانب الروحي والأخروي. ولذلك، دعا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلى طاعة الحكام طاعة عمياء واتباع أوامرهم واجتناب الخلاف معهم حتى وإن كانوا وثنيين وظالمين.

فعلى سبيل المثال، يأمر العهد القديم بطاعة الملوك وحفظ أوامرهم، ففي العهد القديم نقرأ: “أَنَا أَقُولُ: احْفَظْ أَمْرَ الْمَلِكِ، وَذَاكَ بِسَبَبِ يَمِينِ اللهِ. لاَ تَعْجَلْ إِلَى الذَّهَابِ مِنْ وَجْهِهِ. لاَ تَقِفْ فِي أَمْرٍ شَاقّ، لأَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا شَاءَ. حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ. وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟»”. (جامعة 8 :2-4)

أما العهد الجديد، فقد أمر فيه السيد المسيح بطاعة القيصر، ففي العهد الجديد نقرأ: حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». (متى 15: 21-22)

وربما يرجع السبب في تلك السلبية السياسية في المسيحية إلى الحقيقة القائلة بأن المسيحية لم يقصد بها أن تكون دينا ودولة، وإنما كان الغرض منها أن تكون مجرد رسالة سماوية روحية قاصرة على بني إسرائيل الذين طغت عليهم المادية الدنيوية (متى 24:15)، ولذلك لم يكن لها شريعة مستقلة ولا أحكام تسري على النواحي الدنيوية سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك. ويضاف إلى ذلك أن السيد المسيح لم يقم دولة ولم يرسم لهذه الدولة نظاما واضح المعالم، بل رضي بسلطة القيصر الوثني عليه.

ومع ذلك، نجد أن الكنيسة ممثلة في الباباوات والأساقفة في كثير من العصور لم يلتزموا بذلك النهج الروحي البعيد كل البعد عن السياسة الذي رسمه الكتاب المقدس سواء في عهده القديم أو الجديد، ولكنهم تدخلوا تدخلا سافرا في الحياة السياسية كلما سنحت لهم الفرصة.

ومن ثم، مارست الكنيسة شتى أنواع التسلط والدكتاتورية والاستبداد السياسي باسم الدين، وتورطت في كثير من أشكال الفساد واستغلال السلطة الدينية لعدة قرون خلال حقبة العصور الوسطى، كما دعت إلى خوض الكثير من الحروب وارتكاب الكثير من المذابح باسم الدين.

ولكن شهدت مرحلة عصر النهضة الإصلاح البروتستاني في ألمانيا على يد مارتن لوثر، إذ انتقد مارتن لوثر الفساد في الكنيسة الكاثوليكية وفي مقدمة ما انتقد قضية صكوك الغفران، وشراء بعض المناصب العليا في الكنيسة والمحسوبية إضافة إلى ظهور ما يشبه “عوائل مالكة” تحتفظ بالكرسي الرسولي مثل آل بورجيا. وظهرت فيما بعد عدد من المذاهب البروتستانتية، مثل المذهب اللوثري في النرويج والدنمارك والكنيسة الأنجليكانية في إنكلترا، حيث يكون الملك رأس الكنيسة، فهي تجعل من الملك رئيسًا لهذه الكنيسة بدلاً من البابا، وغالبًا ما تكون سلطة الملك فخرية في حين يتولى رئيس أساقفة معين من قبل الملك شؤون الإدارة الفعلية.

ومع فتح القسطنطينية وسقوط الإمبراطورية البيزنطية وتحول ثقل الكنيسة الأرثوذكسية إلى روسيا، ظهر مبدأ “الحق الإلهي” من قبل الملوك لتبرير الحكم المطلق، ومن هؤلاء لويس الرابع عشر الذي زعم أن سلطته الممنوحة له من الله لا حقّ لأحد من رعاياه حدها. كما حاول جيمس الأول وتشارلز الأول، ملوك إنجلترا، استيراد هذا المبدأ وعليه نمت المخاوف بأن تشارلز الأول بصدد تأسيس حكم استبدادي، وتمخضت تلك المخاوف باندلاع الحرب الأهلية الإنجليزية. كما وصل رجال دين مناصب هامة وخطيرة في الدول الأوروبية مثل الكاردينال ريشيليو الذي كان وزير الملك الفرنسي لويس الثالث عشر والكاردينال جول مازاران وكان رئيس الوزراء في عهد لويس الرابع عشر.

وخلال القرن الثامن عشر نضجت الأفكار القومية والإلحادية في أوروبا، وتزامنت مع تجربتين لهما عميق التأثير في المسيحية: التجربة الأولى ممثلة بقيام الولايات المتحدة الإمريكية سنة 1789، وكانت الولايات المتحدة مزيجًا من طوائف بروتستانتية عديدة لا تنظمها سلطة مركزية، لذلك فقد كان اعتماد إحدى هذه الطوائف دينًا للدولة أو لإحدى الولايات سيؤدي إلى مشاكل عديدة تؤثر على حالة الاتحاد الفدرالي لذلك كان لا بدّ من فصل الدين عن الدولة.

أما التجربة الثانية فكانت الثورة الفرنسية سنة 1789 والتي قامت تحت شعار حقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة، وكانت التجربة الفرنسية تجربة هجومية ومضادة للكنيسة فقد تم مصادرة أملاك الأوقاف بما فيها الكنائس والأديرة وإخضاعها لسلطة الدولة الفرنسية، كما واحتلّ نابليون الأول إيطاليا، ووقع اتفاقية بينه وبين الكرسي الرسولي سنة 1801، وبذلك فقد أصبح تعيين الأساقفة والكهنة وإدارة شؤونهم بيد السلطات الفرنسية وليس بيد الفاتيكان.

ولقد سمح تخلي فرنسا عن مواقعها في روما للمملكة الإيطالية بملء الفراغ وانتزاع الدولة البابوية من السيادة الفرنسية في ظل تنامي فكرة القومية الإيطالية. ورغم ذلك فإن الفاتيكان والمباني المحيطة به ظلت ذات حكم خاص في ظل هذا الوضع الذي دعي به البابوات بشكل مجازي “سجناء روما”.

واليوم، فإن غالِبيّة الدول التي يشكل فيها المسيحيون أغلبية تَتَّبَنّى النظام العلماني حيث يتم دعم الفكرة من تعاليم الكتاب المقدس: “أعْطُوُا إِذَاً مَا لِقَيْصَرْ لِقَيْصَرْ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ”.

_________

المراجع:

1- الكتاب المقدس

2- موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة

3- موقع الأنبا تكلا

_________

اقرأ أيضا:

الديمقراطية بين الإسلام والمسيحية (2/2)

مواضيع ذات صلة